وأنت تتأملُ شريطَ الذكريات وتستفتحُ أبوابَ الحنينِ التي بداخلك مع صديقك البحر لا تزال تسكنك تفاصيل الصُحبة ولحظات الاستماع والاستمتاع بكلّ ما فيهما من أشواق وأحزان، هدوء وصخب، تبرُّم وانشراح. عالم آخر، غير أن ثمّة تشابهاً كبيراً بيننا، نحن وهو، ألا يقع الشبيه على الشبيه.

كم من صُحبة تبدّدت وعلاقات حميمية انفرط عَقدها وصارت في طيّ النسيان بعد أن فشلنا في حفظها من الحسرة ومرارة الخِذلان. الفراسة وقراءة الوجوه والابتسامات العريضة التي تزينّا بها قد تسقط مرةً واحدةً مع أول اختبار في الأخلاق، فيكون البحر حينئذٍ الصديق الصدوق الذي نلوذ به ونتقاسم معه الوَحدةَ والاغتراب، الليل والنهار وزُرقة السماء التي يغرق فيها وزُرقة الدمع الناجم عن الالتياع والافتراق الذي نُصاب به.

للبحر حسُّه وجسده وشكله وربما شغفه، ويمارس العشق هناك بصمت مع جارته الشمس في الأعالي و«يتعلّل» مع ضوء القمر الذي يسكن وجهه الفسيح. مثلنا تماماً، هو قِبلة من ابتُلي بالعشق اليتيم والودّ الأليم من بيننا، وملاذُ اليائسين ومن طواهم الكَمْد، قهراً وعشقاً وبلية.

نَقصدُ عمّنا البحر لنفتش عن ملامحنا التي تغيّرت وذواتنا التي تاهت في المُعترك، ونجدّد حياتنا فيه ونُغرق الذكريات الأليمة فيه وتباريحَ العيش والهوى المُرّة. نذهب لشيخنا الجليل هناك عندما تضيق صدورنا ونذبُل كورود الياسمين وأوراق الرياحين عطشاً، ونرجوه أن يقبل أحزاننا وآهاتنا التي نذرفها بين يديه الكريمتين بارتياح.

أيها العاشقون المعشوقون، من تنعم بالوصل منكم أو تعذّب بالهَجْر، ويا أيها السائرون في دروب الحزن والألم، كلكم ستأتون يوماً ما عمّكم البحر لتتقاسموا معه الجِيرة والجوار، وتبوحوا له بأسراركم المُوجعة وانفعالاتكم المكلومة. مَنْ غيرُك يا عمّنا يستوعب هذا الشتات الذي تراكم في أرواحنا، ومَنْ غيرُك يعصمنا من الانكسار والنهايات التعيسة؟

هذا ليس كلاماً في الفسطائية الفضفاضة، وعبثيّة في السّرد، بل هي حقيقة ماثلة لم ندقّق فيها يوماً ونفهمها على الوجه الصحيح. فالبحر الذي بدواخلنا وما فيه من خوف ومفاجآت وهزائم وانكسارات وأشواق وأحزان، وبحر الله الذي هناك في الطبيعة واحد، لا يحدّه حدّ ولا يمنعه سدّ، إلا بقدر قربنا منه وفهمنا له كما ينبغي على الوجه المُبتغى.

نأتيك مع التباشير ونهاية «النهارات» بدون ملل، نتوسّد مشارفكَ يا عمّنا لتغسلُ وجوهنا المتعبة بكفيك الكريمتين لنشتّت الضياع والخَواء الذي تمادى فينا كوباء صارم، وتمسحُ بعطف عواطفنا ومشاعرنا «الكسيفة» في دواخلنا المُعتمة، وأيامنا القاحلة.

هو كذلك، يأخذ البحر منّا كما نأخذ منه ويتأثر بنا كما نتأثر به. مثلنا تماماً، الشيء وضدّه، الماء والنار، الجنّة والجحيم، السموّ والسقوط، هو يغضب ويهدأ، خليط من المشاعر في مكان واحد. وليس شرطاً أن نتقمّص شخصيّة البحر حتى نتأكد أنه يُشبهنا ونُشبهه، غير أنه حرّ طليق بذاته بعكسنا نحن. له علينا فضل الإقبال والإنصات، ألا يحزن لحزننا ويفرح لنا كما لم نفرح من قبل؟ ألم نجاوره كي نتحرّر من قيدنا المألوف الذي يأسرُنا بالعذابات والانكسارات وفي كثير من محطات الوجع في النفس والخواطر؟

يا عمّنا البحر، كم تعبنا، وكم سهرنا وكم عطشنا، فمَنْ غيرُك يُطبطب على أكتافنا المُثقلة بالهموم، ويحفظ أسرارنا التي بحجمك. نحن اليتامى والمتعبين على الضفة الثانية، أقبِلْ علينا واضممنا تحت جناحك الشفيف، وبكرمك السخيّ، اروِ ظمأنا الذي أسهد ليلنا الطويل وأغشى عيوننا التي هدّها السّهر وحرمان الآخرين.

يا شيخنا شكراً ونعتذر، فقد أثقلنا عليك بأوجاعِنا وآهاتِنا لكنّك لم تتعكّر مثلنا، أو تتلوّن مثلنا، ولن تظلَّ وحيداً أيضاً بعد اليوم مثلنا، سنأتيك كل صباح وكل مساء، ندفن فيك ذكرياتنا الأليمة وأحاسيسنا القاسية كما عودّتنا، فأنت مثوى الحَزانى ونصير المنكسرين منّا ومَنْ غابت شمسُهم أو أوشكت.