يحتاج الإنسان في أغلب لحظات حياته، وعندما تتقدم به سنوات العمر لأن يستزيد من خيرات سنوات مضت، وذكريات حفرت على صخرة الحياة، يستزيد بها ليجمل حياته المعاصرة، ومستقبله القادم، ويبدأ من جديد وفي كل لحظة تمر به بكتابة رؤية ثاقبة مصيرية على المدى البعيد هدفها إسعاد نفسه، والتلذذ بملكوت الله تعالى، والعيش عيش الآخرة، والثقة بالظفر بما أعده الله تعالى للأوفياء والمخلصين من عباده في حياة الكد والتعب والنصب.
أقف مع نفسي لحظات ولحظات أتأمل لحظات الانطلاق في حياتي، وبنفس عميق على ساحل الحياة الساكنة حتى وإن عشتها أحياناً صاخبة بتراتيلها المعقدة، أقف لأتذكر كل لحظة مرت بي حتى هذه اللحظة، فيها من التجارب والخبرات والمواقف التي لا تنسى، فكل موقف له نسيجه الخاص، وله وقعه الجميل أحياناً في نفسي، ومؤثر وحزين في أحيان أخرى، وإن كان الحزن في واقع نفسي له أيضاً تجربة خاصة ومؤثرة في مسيرة حياتي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
أقف مع نفسي في كل انطلاقة جديدة آنية أو مستقبلية، أستذكر بدايات الانطلاق، سواء أيام الطفولة البريئة التي عشتها بين أحضان أسرتي الرائعة، وبين أحضان أمي الحنونة رحمها الله تعالى التي كنت أتدلل بين أكنافها، وبين نظرات التأمل لحكايات الحياة من والدي الغالي أمد الله في عمره، أو أن أركض لاهثاً وراء إخوتي وأخواتي أتأمل في كل خطوة يخطونها على أرض الحياة.. ولأني آخر العنقود الأسري.. كان هذا الأمر بالنسبة لي صورة جميلة بأن أكون الرقم الصعب في الأسرة أتلفت فيها يمنة ويسرة لأرتب أوراقي وألملم أفكاري وأستعيد أنفاسي مرة تلو الأخرى حتى أعيد الانطلاقة مرات ومرات حتى أحصل في نهاية المطاف على ما يروي الظمأ ويجدد العزم.. نعم عشتها مرات ومرات في ذلك البيت العود الذي مازلت أتذكره وأتذكر جدتي رحمها الله وهي تترنم بآيات الله العطرة، وتصلي من الليل الشيء الكثير.
أقف مع نفسي ومع حديث الحياة لأحكي حكاية الحياة وتجارب العيش، ليس لأني على وشك أن أخط نهايات كتاب أسعى لتأليفه ليكون ومضات حياتية لأبنائي وأبناء المستقبل ولجيل الحياة، ولكن لأني وصلت لمرحلة أحسست بأني أحتاج لأن أخط انطلاقة أخرى من انطلاقات الحياة، أستعيد فيها كما يستعيد غيري قواه لأنهض من جديد بلا كسل أو هوان لحياة جديدة أعيشها الآن، ولعلي عشتها سابقاً، وآمل أن أعيشها على الدوام.. إنها مرحلة انطلاقة متجددة آمل من خلالها أن أقطف قطوف الحياة كما قطفتها طيلة تلك السنين التي مضت، والتي سأسترسل في الحديث عنها ثمرة تلو الأخرى، لأرسم ألواناً متناسقة على جدرانها، وأكتب كلمات الحب وجمال الحياة على سطورها الرائعة والمتجددة، ولأصنع حياة حلوة متجددة داخل نفسي الطفولية أبداً ما حييت، أستذكر فيها كل تجربة، وحكمة مثلى، وعناوين مضيئة خطتها لنا الحياة.
أقف مع نفسي لأعانق خيالات السماء الصافية، وأشيد «مدرسة أسرية» شامخة تتزين فصولها بسراج التميز وأنوار الحماسة والمحبة.. أشيدها بحنو وإشفاق يعم شهرتها الآفاق، وتكون سلاح خير تدك به صعاب الحياة.. وتكون كثمار عطاء وسخاء نبتت في أرض مشينا في جنباتها يوماً ما، وغرسنا فيها ومازلنا أزكى أنواع الزهور.. لتكون اليوم ساحة أبدية لنبل العيش ومنطلقات الجمال وأروع آيات البيان.
أقف مع نفسي ومع أجمل أطوار «الأخوة الربانية» التي عشنا في ظلالها ومشينا في ركابها، وتلذذنا فيها بمهدآت الأسحار، وجمال الإيمان، وتعلمنا فيها أروع البيان، وأنقى قسمات الحب الصافي، وانطلقنا نسكب ماء الإيمان في كل قلب متعطش للرب الديان.. أخوة صفقنا لها كثيراً ومازلنا.. خاطبنا في دروبها المشاعر والأحاسيس، وعلمنا أنفسنا إنما الحياة محطة صغيرة، أوقاتها قصيرة.. سعيد من عرف كيف يقتنص فيها الفرص.. وشقي من نام فيها بلا هدف ولا غاية.. أخوة تعانقت فيها الأرواح، حتى أضحت كجسد متماسك يهتم بكل عضو فيه مهما مضى به العمر.
إنها الانطلاقة في حديث الحياة، نجدد فيها سيرنا إلى الله تعالى، ونزيل من خلالها الأدران من قلوبنا، ونحفظ فيها نفوسنا من الزلل، ونقصد فيها أبواب الرحمن سبحانه وتعالى، طمعاً في رضوانه، وشوقاً للقياه، وحباً فيما عنده من نعيم مقيم، وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. إنها انطلاقة الفردوس الأعلى في حياة قصيرة نطمع من خلالها أن نحقق الكثير والكثير بانطلاقة ستحقق الكثير في حياة نحلم فيها بالسعادة والراحة النفسية والنفس المطمئنة النقية المحبة للخير لكل البشرية.
والله نسأل أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه.