قال الهروي رحمه الله في حديثه عن درجات الفتوة: «وهي على ثلاث درجات: ترك الخصومة، والتغافل عن الزلة، ونسيان الأذية».
يتثاقل المرء في بعض الأحيان بأن يؤدي ما له من واجبات وما عليه من حقوق تجاه من يحب في ميادين الحياة المختلفة، فهو قد يكون سطحياً في تعامله، جافاً في طبائعه، لا يملك «غطاء الإحساس» الذي يوفر له الحماية الكاملة للتعامل مع متطلبات العيش وأصناف البشر الذين تتلون نفوسهم كألوان الطاووس!!
ولعل الأمر الأهم في هذا الإطار الالتفات بشكل واقعي إلى «سوانح الإحساس» وتضمينها الواقعي في مسيرنا إلى الله، فهي تعطيك ألذ الثمار، وتنقل نفسك إلى مراتب الإيمانيات المتعلقة بأستار الآخرة.. ففي كثير من الأحيان تعجز النفس عن أن تتهم نفسها بالتقصير، أو توجه اللوم إلى إحساسها وعملها تجاه ربها أولًا، ثم الآخرين.. وهي بذلك لا تقوى على أن تظل صامدة في دنيا البشر لأنها لم تحسن صنيع «نجاح الآخرة» ولم تحسن «المسير إلى ربها»، بل ظلت حبيسة داخل نفسها تتكبر وتتعجرف على أمور تافهة لا تسمن ولا تغني من جوع.
ولعل «الفتوة» التي تحدث عنها الإمام الهروي رحمه الله إنما تجعل النفس سمحة هينة لينة تتعامل مع الكون كله بعفوية بالغة، وبحس إيماني دقيق، فهي تلتفت إلى كل شيء بأن مصيره الزوال، لذلك فليس من الصواب أن تظل تضيع أوقاتها في متاهات العراك الحياتي من خصومات وتتبع للزلات وعدم نسيان الأذية!!
فهذا الإمام ابن القيم يقول في حديثه عن درجات الفتوة: «هذه الدرجة من باب الترك والتخلي، وهي ألا يخاصم أحد، فلا ينصب نفسه خصماً لأحد غيرها، فهي خصمه. وهذه المنزلة أيضاً ثلاث درجات: لا يخاصم بلسانه، ولا ينوي الخصومة بقلبه، ولا يخطرها على باله. هذا في حق نفسه. وأما في حق ربه: فالفتوة أن يخاصم بالله وفي الله، ويحاكم إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح: «وبك خاصمت، وإليك حاكمت» وهذه درجة فتوة العلماء الدعاة إلى الله تعالى».
من هنا فإن «الإحساس الدقيق» بأن الإنسان يجب عليه أن يحاكم في جميع أموره إلى الله تعالى، بل ويحذر أن ينوي ولو «بخاطرة تخطر بباله» بأن يخاصم أي بشر كان حتى لا تقع نفسه في مصائد الاتهامات المتبادلة، والخصومات التي لا طائل من ورائها إلا تشتيت الشمل والفرقة ونشر الكراهية والبغضاء بين الناس.
وأما عن التغافل عن الزلة، فقال ابن القيم رحمه الله: «وأما التغافل عن الزلة: فهو أنه إذا رأى من أحد زلة يوجب عليه الشرع أخذه بها: أظهر أنه لم يرها، لئلا يعرض صاحبها للوحشة، ويريحه من تحمل العذر. وفتوة التغافل: أرفع من فتوة الكتمان مع الرؤية».
وما أروع هذه الدرجة التي يعمل بها المرء جاهداً في مراعاة مشاعر غيره من البشر وبخاصة من يحب أن يتغافل عن الزلات ويغفر العثرات، فهو يظهر أنه لم يرها حتى لا يجعل صاحبها يعيش في «دوامة انعزال نفسي عن الآخرين» ويعرضه للتيهان.. فالتغافل أعظم نصيحة تربوية أحياناً توجهاً كرسالة طارئة إلى من تحب.
وقال رحمه الله عن نسيان الأذية: «فهو بأن تنسى أذية من نالك بأذى لصفو قلبك له، ولا تستوحش منه».
وهذه مرتبة عليا من «الفتوة» أن تحرص جاهداً على أن تنسى أذية من نالك يوماً ما بأذى أو تعرض لك بقسوة أساليبه، أو تكلم عنك في غيابك، ذلك لأنك تحرص جاهداً على أن يكون قلبك نظيفاً سليماً نقياً كالماء الزلال، تحرص على أن لا تنام الليل إلا وأنت متصدق بعرضك على الآخرين، تقول: «اللهم إني تصدقت بعرضي على الناس وعفوت عن من ظلمني». تنام وأنت تتذكر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الصحابي الذي أخبر عنه الصحابة: «يطلع عليكم رجل من أهل الجنة» لمدة ثلاثة أيام.. فبات عنده أحد الصحابة فلم يره كثير طاعة وعبادة، وعندما سأله أخبره بأنه «ينام الليل ولا يحمل في نفسه أي شيء على الآخرين».
إنها منزلة عليا عندما تغض الطرف عن أية أذية وقعت بها بسبب الآخرين، عندما تتسامح وتعتذر حتى لمن أخطأ بحقك لإيمانك العميق بأن الحياة قصيرة، وأن نفسك يجب أن تحاكمها اليوم قبل الغد، وإن كان الخطأ من غيرك، فإنك تقدم له أكبر درس مؤثر في التعامل مع النفوس وفي الصفح والتسامح والغفران وعدم التكبر والتغطرس.
إنها الفتوة المعينة على تربية النفوس.. من أجل مسيرنا إلى «الفردوس الأعلى».