يقول الأديب مصطفى الرافعي رحمه الله: «في الساعة التاسعة أذهب إلى عملي، وفي العاشرة أعمل كيت، وفي الحادية عشرة أعمل كيت وكيت، وهنا في المصيف تفقد التاسعة وأخواتها معانيها الزمنية التي كانت تضعها الأيام فيها، وتستبدل منها المعاني التي تضعها في النفس الحرة. هذه هي الطريقة التي تصنع بها السعادة أحياناً، وهي طريقة لا يقدر عليها أحد في الدنيا كصغار الأطفال». ويقول: «أليس عجباً أن كل إنسان يرى في الأرض بعض الأمكنة كأنها أمكنة للروح خاصة، فهل يدل هذا على شيء إلا أن خيال الجنة منذ آدم وحواء، لايزال يعمل في النفس الإنسانية؟».
تنعم باستراحات حياتية تعطيك حركات دافعة للنمو الإيماني والنمو في الخصال والفعال الحميدة.. تنعم باستراحات «المحارب» تبتعد فيها عن صخب الحياة وتعقيدات الأيام، وروتين الأوقات القاتل.. تنعم بصناعة «سعادة» تفرضها على نفسك «المنهكة» لتنفض عنها القيود والتقييد، وما عصف بها من الهنات المخجلة، والآفات المزرية، وما يحيك في الصدر أحياناً بلا قصد ولا تعمد.. تنعم بين الفينة والأخرى باستراحات تكحل بها عينك، وتقوم بها أخلاقك، وتتنسم فيها عبق أجمل الذكريات، وتقتلع كل أشواك الضير، وتمحو كل الآلام الحزينة المدفونة في نفسك يوماً.. تنعم باستراحات تزيل عنك العثرات، وتعيد حساباتك في «مسيرك» إلى الله، وتتأمل مصيرك الحتمي الذي ترجو الخالق العظيم أن يختمه لك بخير.. تنعم باستراحات تجدد فيها الإيمان وعطاء الحياة وهمة الخير، وتكتب في صفحاتك وبخطوط عريضة «أنك قد ولدت من جديد» فترسم لنفسك «صورة إكبار وتعظيم» تدفعك لتطوف الآفاق الرحبة بنفس متوثبة ومتحفزة لعمل الخير، وتغلق فيها موات الأيام التي رحلت بعد أن نخرت في عظامك بآلام استطعت -بفضل الله تعالى- أن تعالجها بإكسير العزم والإيمان المتقد.
وما أجمل أن تختار نفسك استراحة «طيبة» التي ورد في فضائلها العديد من الأحاديث النبوية، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبب إلينا المدنية كما حببت مكة أو أشد..» رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل فإني أشهد لمن مات بها» رواه ابن ماجه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه داعياً: «اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم». وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها». رواه البخاري.
إنها «طيبة الطيبة» التي تؤرقنا الأشواق للتنعم بأجوائها الإيمانية والنبوية الجميلة.. هي «طيبة» الرائعة التي اخترتها بأن تكون محطة استراحة حياتية كمكان خاص بالروح كما قال الرافعي.. طيبة التي تضيء طرقاتها وجنباتها بأروع قيم النبوة، ونستلذ فيها بهدآت النفوس، وسكينة النفس.. ونستشعر بجوار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نستلهم من سيرته ما نقوم به الأخلاق ونرفع به الدرجات.. سيرة خطها قائد البشرية بشخصيته الفذة التي استطاعت أن تصنع «حياة حلوة» للناس جميعاً.
إنها طيبة التي لا تطاوعك نفسك أن تغادر أرضها لحظة واحدة بعد أن سنحت لك الفرصة واختارك المولى لزيارتها وزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. نعم اختارك حتى تتنعم «باستراحة إيمانية نبوية» تجدد إيمانك وحياتك، وتستمتع بطبيعة جميلة خلابة تلغي فيها فوارق الأوقات، وجمود الفكر، وتوقف نزيف الأوقات الضائعة في غير فائدة ولا حكمة هادية للخير والصلاح.
إنها طيبة التي تعطيك الخيال الواسع للاستغراق في «نعيم الجنة» الذي تشتاق له الأنفس.. نعيم مقيم دائم في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.. نعيم في «الفردوس الأعلى» تلتقي فيه بخير البشرية صلى الله عليه وسلم، وتتلذذ بصحبته، والتنعم بشربة هنيئة مريئة من يده الشريفة.. خيال يوصلك إلى نعيم تتقلب فيه فرحاً وسعادة بمنزلتك عند الله.. وتتلذذ برؤية الرحمن.. خيال يعطيك أكبر الآمال للاستمتاع برؤية خير الأنام بعد أن حرمت من رؤيته في دنيا البشر..
إنه رحيق محبة النبي صلى الله عليه وسلم التي يجب أن نتلذذ بها ونحملها على كفوفنا، ونزرعها في أفئدتنا، وننسج خيوطها على أبدان فلذات أكبادنا.. هذا هو الإحساس الجميل الذي حملته في نفسي طيلة «فترات الاستراحة الإيمانية» التي عشتها على أرض النبوة وميدان الخير.. لأعود مجدداً وأكون أنوار خير تبزغ في سماء الآخرين، وأجدد رسالتي تجاه ربي أولاً، ثم نفسي مجدداً، ثم الآخرين، ثم مجتمعي الحبيب.
إنها «طيبة الطيبة» التي تعجز الحروف أن توصف «جمالها الباهر» في كل شيء.