يقول الدكتور مصطفى السباعي: «بالحر والبرد نعرف فضل الرطوبة والدفء، وبالظلم والعجز نعرف فضل العدل والحزم، وبالأولاد نعرف ما لاقاه آباؤنا في سبيلنا، وبالمرض والشيخوخة نعرف فضل الصحة والشباب، ولكن هل ترد العبرة ما فات؟ وهل ترد الحسرة أيام المسرات:
ليت وهل ينفع شيئاً ليت
ليت شباباً بوع* فاشتريت
(*هو لغة: بيع)».
وقال تعالى: «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور». وقال عز وجل: «والعصر(1) إن الإنسان لفي خسر(2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر(3)». وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك». وقال بعضهم: «كيف يفرح من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟! كيف يفرح من عمره يقوده إلى أجله، وحياته تقوده إلى موته؟».
يمضي كل يوم من أعمارنا دون أن نبصر علائم دنو آجالنا، في مواعيد محددة لا نقوى على تقديمها أو تأخيرها، آجال لها كتاب محدد، آجال تنقضي أوقاتها بالغفلة المميتة، أو بطاعون التسويف، أو بإهمال العمر بسرحان دائم في مراحله، لقد أضحت حياتنا فراغاً دامساً يحيط بأولئك الذين باتوا لا يتعظون إلا بحوادث الدهر ومفاجآت الحياة الكثيرة التي تؤلم النفوس، فحياتهم مجرد لهو عابث، وانشغال بالتفاهات والشهوات، دون وجود أي هدف أو غاية مرجوة، إنه الفراغ النفسي الذي لا يلتفت لنفسه إلا عند المصائب، فراغ يفضي لصاحبه إلى المهالك، ويجعل قربه من الأجل ملازم لحياته في كل حين، لأنه لم يتدارك ما بقي من عمره في الصالحات، وبات يعيش في موقف متزمت يرفض تطهير النفس والبكاء على ماضي الأيام التي مضت دون عظة تمكنه من استغلال ما تبقى من عمره في طاعة الرحمن، إن الاتعاظ بحوادث الأيام يجب أن يكون في كل حين وفي كل أوقات المرء، تنبه صاحبها متى ما غفل وغرق في بحور الآثام، عظة تنبه صاحبها لصفحات مضت قصر فيها، ولصفحات قادمة يجب أن يخط خطوطها بنجاح واستغلال لكل لحظة في الخير، عظة لا يبكي صاحبها على الماضي بمجرد البكاء، وإنما بكاء يحفزه للمزيد من العمل، كما هو الحال لتبصرنا بسرعة انقضاء الأوقات، التي يجب أن تدفعنا لبذل المزيد من الجهد لعمل الآخرة، لا أن تتساقط أوراق العمر ورقة تلو أخرى، وتنقضي الأيام والسنوات سنة تلو أخرى، دون أن نتأمل قصر حياتنا، وجودة أعمالنا، وعلاقتنا برب البريات، وهمتنا في حياة العثرات!!
فلا تنشغل أبداً بأيام الماضي، ولا تتحسر على أيام مضت لم تكن فيها مقتنعاً بعملك، ولا تتحسر على زمان مضى تلذذت فيها بنكهات المسرات، فالحسرة لا تنفع، إلا بعمل دؤوب لجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. إن الحسرات اللاذعات لا تجدي نفعاً لمن أصر على الغوص في بحور الغفلات والملذات، ولمن جعل من الماضي ألماً لحاضره يبكي على أطلاله في كل اللحظات، بل الأجدر به أن يصوغ رسالة جديدة بصفحات أجمل بحاضر رائع يؤسس لمستقبل مشرق، يستند فيها إلى حائط الماضي ليتجنب كل تقصير وخطيئة، لينتقل من خلالها إلى حياة البهجة والسعادة، وعمر الإنجازات والعطاء..
من هنا يجب أن يؤسس كل فرد منا ـ وبخاصة شبابنا المتحمس ـ لبنيان راسخ يسعد بأوقاته المليئة بالإنجازات، ويحول فراغه إلى منابع للخير، وإلى حركة دؤوبة زاخرة بكل ألوان الأجر الأخروي، وإلى مشروعات تنموية تحتضن كل الحائرين الذين لم يعثروا بعد على «مسير الخير»!! مشروعات تعطي للحياة نكهة خاصة، قائمة على مرضاة المولى تعالى، تراقبه في كل حين، وتحذر من الانقياد خلف آخر صرعات الموضات المجنونة!!
ومع إطلالة الإجازة الصيفية والتي تصادف أيضاً شهر رمضان المبارك، باتت الحاجة ماسة لوجود مشروعات صيفية نوعية تحتضن شبابنا وتنمي مهاراتهم ومواهبهم وتصقل شخصياتهم، وتبعدهم عن مواطن الرذيلة، وتحببهم إلى مواطن العفة والخيرات، إن الصبغة التي يجب أن نصبغها في برامجنا وأنشطتنا المجتمعية صبغة تقوم على الاهتمام بخصائص الأوقات والإحساس بأهميتها، وبالأخص «سرعة انقضائها» التي لا تمهل الإنسان في إنجاز كل أعمالها، ونظرة فاحصة للقبور، فكل أصحابها لم تسعفهم الأوقات بأن ينهوا أعمال الحياة الكثيرة!! فطوبى لمن أحسن استثمار أوقاته، وجعلها واحات للخير والعطاء.
حياتنا لحظات معدودات، ورمضان أروع لحظات نزلزل فيها نفوسنا بأحلى الإيمانيات، فلا تضيعوها هباءً منثوراً!!