حمل إلى الإمام البخاري بضاعة له، فاجتمع بعض التجار إليه بالعشية فطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم، فقال لهم: انصرفوا الليلة. فجاءه من الغد تجار آخرون فطلبوا منه تلك البضاعة بربح عشرة آلاف درهم، فردهم وقال: إني نويت البارحة أن أدفع إلى الذين طلبوا أمس بما طلبوا أول مرة. فدفعها إلى الأولين بما طلبوا بربح خمسة آلاف درهم، وقال: لا أحب أن أنقض نيتي.
يقول الشيخ القرضاوي: (وإنما كانت العجلة من الشيطان: لأنها -كما قال ابن القيم- خفة وطيش وحدة في العبد، تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور، وتمنع الخيور. وهي متولدة بين خلقين مذمومين: التفريط والاستعجال قبل الوقت). وفي الحديث: (يستجاب للعبد ما لم يستعجل). ودعا أحد الصالحين غلاماً له وهو في الخلاء يقضي حاجته، وأمره أن يتصدق بصدقة على فلان من الناس. فقال له: هلا صبرت حتى تخرج من الخلاء؟! فقال: حضرتني هذه النية. فأحببت التعجيل بها، ولا آمن على نفسي التغير).
قد يخلط البعض بين مفهوم «المسارعة في الخيرات» والتعجل في قضائها، مع مفهوم «العجلة المذمومة» وهي كما قيل «من الشيطان» لقول عليه السلام: «الأناة من الله، والعجلة من الشيطان». وهو الأمر الذي يجعلنا ننبذ بلا تردد «العجلة المذمومة» التي تجلب لنا شرور الشيطان، والتي قد نفقد معها العديد من الامتيازات الحياتية والعلاقات الإنسانية مع الآخرين، ونكون ثقلاء في التعامل وفي الحوار والأخذ والرد، بسبب «العجلة» التي لا تعطي أحياناً فرصة سانحة لبيان وجهات النظر، وحسن النيات، وصفاء السريرة، ليكون الحكم في منتصف الطريق «بأحكام متسرعة» نفقد معها جمال علاقاتنا مع من نحب، بل مع المجتمع بأسره. وهذا يسري أيضاً على ما يتم نقله من آراء، وما يصل من بيانات وأخبار وبخاصة في زمن كثرت فيه وسائل التواصل الاجتماعي، وبات البعض يتعجل في إرسال كل شيء يصل إلى هاتفه بدون تمحيص ولا تأكد ولا تريث للتأكد من صحته. كما إن ديننا الحنيف قد سن «الاستخارة» والتأني في مواقف الحياة التي تتطلب ذلك، من خلال الاستخارة والاستشارة، مع الحذر من تحويلها إلى تسويف ومماطلة، بمعنى آخر ضرورة الاحتكام إلى ميزان حساس دقيق يقيس كافة الأمور الحياتية بما يضمن اتخاذ قرارات مريحة للمرء.
أما «المسارعة في الخيرات» مع التخلق بإبقاء النيات لعمل الخيرات، فهو ما يحث عليه ديننا الحنيف، بأن يكون المسلم دائم النية في عمل الخير ليلاً ونهاراً، فلا يخطر على باله إطلاقاً بأن يبدل نيته من أجل أن يضمن سريان الأجر طيلة أوقاته وعمره، مع الحذر أشد الحذر من تحويل ميدان النيات إلى «نية سوء» فيهم بالسيئة فتكتب عليه سيئة.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله تبارك وتعالى عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» متفق عليه. ويقول الله تعالى: «أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون»، وقال تعالى: «فاستبقوا الخيرات». وقال عز وجل: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين». ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا».
فهنا يحث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المبادرة بعمل الخيرات قبل أن تكثر انشغالات المرء في هذه الحياة وتكثر الفتن المهلكات، لذا فإن المرء يسأل الله تعالى على الدوام «اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك».
فبادر أخي -وفقك الله- إلى عمل الخيرات في كل لحظة من حياتك، واشغل نفسك فيها، واستغل فترات صحتك وعنفوان عطائك في تضمين حياتك كل معاني «الخيرية» حتى تكون دائماً مع الله تعالى.. سارع لبناء منزلتك في جنة عرضها السموات والأرض، بصدقة تتصدق بها كل يوم، وبمشروع تقيمه في حياتك يبقى أثره في الأجيال المتعاقبة ويشفع لك عند الملك الديان.. وبكلمة خير تنشرها في كل ميادين الحياة، حتى تكون «شعلة أمل» تضيء دروب الحيارى.
فما أروع «النية الخالصة» و»المسارعة في الخيرات» تصحبهما معك في مسيرك إلى الله.