يقول الأديب مصطفى الرافعي رحمه الله: «يا عجباً للناس عجباً لا ينتهي! كيف يجعلون الحياة مدة نزاعٍ وهي مدة عمل، وكيف لا تبرح تنزو النوازي بهم في الخلاف والباطل، وهم كلما تدافعوا بينهم قضية من النزاع فضربوا خصماً بخصم وردوا كيداً بكيد، جاء حكم الموت تكذيباً قاطعاً لكل من يقول لشيء: هذا لي؟ أما والله إنه ليس أعجب في السخرية بهذه الدنيا من أن يعطى الناس ما يملكونه فيها لإثبات أن أحداً منهم لا يملك منها شيئاً، إذ يأتي الآتي إليها لحماً وعظماً، ولا يرجع عنها الراجِع إلا لحماً وعظماً، وبينهما سفاهة العظم واللحم حتى على السكين القاطعة».
أستغرق في التفكير والتأمل في غمرة الحياة وصورها «الساذجة» أحياناً، واختلاطها بأنماط تافهة لا هم لها إلا «فخفخة فارغة» ونزوات شهوانية مريبة، واعتراك ما بعده اعتراك في ميادين الحوارات الساخنة التي تفضي غالباً إلى عواقب مهلكة، ومشاحنات مسمومة، تثقل النفس برواسب وأثقال مميتة، وتزيدها عداوة فوق العداوات التي تخلخل منظومة العيش، وتؤثر في بنيان الحياة، وتشعل ناراً تأكل «أواصر المحبة» وعرى التكافل والتلاحم.
عجباً لأناس استغلوا وسائل التواصل ليحولوها إلى ميدان سب وشتم وقذف، وأساليب منفرة، وهم في الوقت ذاته يقفون وراء «حروفهم» برموز أخرى كالثعبان يعجبك بنعومته ويفتك بك بسمومه المميتة.
وعجباً لأناس حولوا ميادين تواصلهم إلى «مضمار» للتسابق في الضحك على الذقون، وإرسال المقاطع التي تثير الضحكات، باستخدام الألفاظ المليئة بالكذب والأمور الجنسية التي لا يليق أن تستخدم بحجة رسم الابتسامات.. فلا ينبغي أبداً التهاون في مثل هذه الأساليب التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم القائل في الحديث الذي رواه الترمذي: «ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له ويل له». قال المباركفوري في شرح هذا الحديث: «ثم المفهوم عنه، يعني إذا كان هذا حق من يكذب ليضحك به القوم، فمفهوم المخالفة: أنه إذا حدث بحديث صدق ليضحك القوم فلا بأس». وقال الغزالي رحمه الله: «وحينئذ ينبغي أن يكون من قبيل مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون إلا حقاً ولا يؤذي قلباً ولا يفرط فيه».
وعجباً لأناس حولوا أوقاتهم إلى تفاهات حياتية فارغة من أجل «قتل الفراغ المجنون» الذي يعيشونه في حياتهم.. فلا تلامس حروفهم شغف القلوب، ولا يحرسون القيم الفاضلة والأخلاق السامية.. بل أضحت حروفهم مجرد عبث بالأوقات وإضاعة لحياة قصيرة نعيشها لا يرجع عنها الراجِع إلا لحماً وعظماً!!
وعجباً لآخرين افتقد قلمهم للحكمة البالغة والصواب التام ومحاسن الحروف والمعاني الحياتية البائنة، فترى أفكارهم بالية، وأساليبهم منفرة تفتقر للصواب وتميل للتشدد والعصبية المجنونة، فلا هم لهم إلا «العراك» اللفظي البعيد عن التعقل.
وعجباً لآخرين حولوا حياتهم إلى ميدان للتشاحن والعداوة والهجران والخلاف حول أتفه الأمور، فضاعت حياتهم سنة تلو الأخرى في قائمة طويلة من الخصومات والهجران والتناحر والتشاحن، فأطالت حياتهم في غير هدى، وأشغلتهم عن عملهم الأسمى في خلافة الأرض، وتوصيل رسالة الخير لجميع البشر. هناك العديد من المجتمعات تعاني من شطحات في مفاهيم العيش، وبخاصة فيما يتعلق بأطر التعامل مع الناس، فتراه يتشرب بفكر»العداوة والهجران وبث الخصومات» منذ الوهلة الأولى عند حدوث الاختلاف في أي أمر كان، الأمر الذي يدفعه بأن يضيع حياته في هجر لهؤلاء، وعداوة لأولئك، والانشغال بتفاهات الآخرين وشجونهم الحياتية، وقد يستمر ذلك لفترات طويلة تضيع معه حياته بلا فائدة مرجوة ولا انشغال بعمل ينفعه للآخرة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه و بين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا» رواه مسلم.
وورد في الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «يطلع عليكم رجل من أهل الجنة»، فحينما سأله الصحابي الذي بات عنده: ما الذي بلغ بك ما قاله رسول الله: فأجاب: «أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه».
لنستثمر حياتنا كما قال الرافعي «في مدة عمل لا مدة نزاع»، ولنحرص على أن نحول حياتنا إلى منظومة متكاملة من الأجور نسارع إلى قطف ثمارها اليانعة، ونأنف من الغوص في حياة تطلب «الدنيا» ولا وقت لها لدقائق الجنة الغالية، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا.