يقول الله تبارك وتعالى في سورة العنكبوت «أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين». ويقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى: «روى البخاري ومسلم في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه». أي: أنه إذا جاء يوم القيامة ووضع الميزان ووزنت الحسنات والسيئات، فقلت حسناته وكثرت سيئاته، رأى المصائب التي كانت أصابته، فصبر عليها ورضي بقضاء الله فيها، وقد وضعت مع الحسنات، فرجحت بالسيئات. وروى مسلم: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمر المؤمن كله خير له، إن أصابته سراء «نعمة» شكر «الله عليها» فكان خيراً له «أي: كانت حسنة من حسناته» وإن أصابته ضراء «مصيبة» صبر عليها فكان خيراً له». بل إن المصائب من علامات رضا الله عن العبد، لأنها كفارة الخطايا ودفع لعذاب الآخرة».
تموج الفتن والابتلاءات بنا في دوامة الحياة، فتقرصنا وتدفعنا للمكوث في بوتقة الهموم والغموم والضيق النفسي والضجر الحياتي.. فالبعض يقيس التجربة القاسية المريرة التي تفضي بنتائج وخيمة وآلام مبرحة، يقيسها بمقياس الجمود والكآبة والقلق، فتراه يمشي في نار حارقة والعياذ بالله تحرق كل أفراح حياته، وتراه يقفل كل أبواب السعادة والنجاح، وإن قرعت أذنه بكلمات الإرشاد والتذكير بالله تعالى وبالأجر الذي سيحصل عليه بعد صبره ومسيره في الحياة بلا تردد أو توقف، يكون لسان حاله حينها: انتهى كل شيء.. الحياة كئيبة سوداء مظلمة!!
إن ركب الحياة يسير بلا توقف مهما اشتد البلاء وعظم الخطب، فكل مصيبة أو فتنة أو تعرقل في المسير إنما هو بقدر الله تعالى وبحكمة لا نعلمها.. لعل أهمها تمحيص هذه النفس وتنقيتها من الآثام وتصفيتها من كل أخطاء الحياة، وتمحيصها من النفوس والخطايا.. فهي فترة امتحان لنفس ترجو الثواب وتخشى العقاب من الملك الديان.. امتحان يقيس المولى تعالى إيمان العبد وصبره، لأنه يحبه.. نعم ثق بأن الله تعالى يحبك لذا فهو يبتليك ليطهر نفسك ويرفع قدرك ويجعلك صاحب شأن في الدنيا والآخرة.. فقط تفكر «حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه».. تصور شوكة صغيرة تصيبك وتتضجر منها.. هي في ميزان الله تعالى «تكفير للخطايا».. حينها استشعر وابتسم لأن الله أحبك وأعطاك من خيره، وكفر عنك الخطايا العالقة في نفسك.
يقول الشيخ عائض القرني حفظه الله في أبيات شعرية جميلة:
لعمرك ما مديت كفي لريبة وما حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا دلني فكري ولا نظري لها ولا قادني سمعي إليها ولا عقلي
واعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتى قبلي
ويقول: «إن هذا الدين صعب المراس، إنه لا يؤتى لكل أحد إلا بابتلاء، وإن من أسرار خلوده أن يستقر مع المبتلين في الأرض، فيظهر الله صدقهم ونصحهم ووضوحهم ويعلم الله ثباتهم، قال تعالى: «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم..»، الناس قد جمعوا لكم بالعراقيل، والمخططات، والشائعات، فخافوهم: «فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم»».
رماني الخصم بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال
فعشت ولا أبالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أبالي
تحويل المحنة إلى منحة، واعرف فيها صديقك من عدوك.. وانقل نفسك إلى مراتب أخرى جميلة من أطوار حياتك.. وتذكر أن مع الأجر الذي تكسبه فإن علامات الفرج قريبة وإن طال الزمان.. ونظرة فاحصة في ابتلاءات الأنبياء ندرك فيها حجم الخطب والكرب الذي اعتراهم في طريقهم ودعوتهم للناس، فصبروا واحتسبوا، بل امتحنهم المولى تعالى أشد امتحان، فها هو يونس عندما امتحن في بطن الحوت نادى في الظلمات: «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين». ويوسف ابتلي بامرأة العزيز فصبر، وسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم صبر على إيذاء قريش حتى نصره المولى الحكيم في فتح مكة.
فاصبر ـ رعاك الله ـ وما صبرك إلا بالله وتذكر «وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون».. وسر في حياتك بثبات نحو تحقيق طموح المعالي في الدنيا والآخرة.. فإن الابتلاء من الدروس الثمينة التي تدفعك للعزائم المتقدة، وترتقي بشخصيتك نحو المعالي، وترفع منزلتك في الجنان.