يقول الشيخ سلمان العودة في مقال له عن الحب: «عندما نغرق في الحب من السهل أن نعتقد أن هذا الشعور الحيوي سيدوم إلى الأبد، ولكن إذا طغت الحياة اليومية انزوى هذا الشعور، وحينئذ نتمنى عودة وهج الحب، ومن الممكن أن ينتابنا شعور بالحرمان إن لم يحدث هذا.. لكن الحب «فعل» وليس شعوراً فقط».
حدثني أحدهم عن مقامات الحب ولياليها السرمدية، وعن أسراب العاشقين التي يؤرقها الشوق للمقامات المومضة من وشائج المحبين.. حدثني عن عشق يسري في روح واحدة، وعن تناغم في عش واحد كحمامتين لبستا لباس الخير والسعادة، وتعانق أطياف حبهما على عتبات الحياة التي تقرع الآذان بنغماتها البارعة، وتصفق لها القلوب بألوانها البارعة، وعواطفها الجياشة.
إنه الحب الأبدي الذي جعلنا في المرتبة الأولى ندوس على تلك الأوهام السابحة في خيال المحبين، فنسلخ جلود كل أنواع الحب التي تثنينا عن الأحب الأسمى الخالد الذي لولاه لما عشنا في دنيا البشر.. حب يحفظنا من سبل المغويات ودروب الظلام ومستودعات الضلال.. إنه حب الله تعالى وحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.. كما ورد في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري رحمه الله، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين». فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. قال: «لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك». قال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. قال: «الآن يا عمر».
حب يدفعنا لكي نفطم أنفسنا عن تفاهات أنواع الحب «المشؤومة والمذمومة» ونلتفت ـ بقلب محب ـ لأنواع الحب الأخرى في سياق جميل نتلذذ من خلاله بعذوبة البيان وسحر الكلام نوقد فيها شموع اللطف والأنس والسرور، بحياة أكثر تناغماً وتوافقاً مع معطيات العيش، وقدرة النفس على الانخراط في كل شؤون الدنيا، بقلب محب لبهجة العمر، وجمال الأوقات.
إنه الحب الذي يحفظ ود وأفضال «أصحاب الفضل» والبصمات المؤثرة، الذين كان لهم أكبر الأثر في حياتنا، يتجاهل أناسها أحياناً إنجازاتهم وكريم فعالهم وجمال أخلاقهم وطيب صفاتهم.. يقول المولى تعالى: «والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم». وورد في معنى هذه الآية «بأنهم من التابعين الذين يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة في أسلوب قرآني رفيع».
إنه الحب المتجدد الذي يعطي دون أن ينتظر أي مردود أو مقابل حياتي، لأنه أيقن بأن عين الزمان تكتحل بأثره «العاطفي» ومشاعره المتدفقة في كل النفوس، والتي يقف أمامها الجميع موقف إكبار وتعظيم، لأنها رسمت البشاشة على الوجوه، وأثرت على كل جارحة من جوارح النفس.
إنه الحب الرفيع الذي يدفع الزوج بأن يكون كيان «المودة والرحمة» يحتضن أهله بأسلوب عملي رحيم تنبسط معه قسمات الزوجة والأبناء، وتتحول معه الأسرة إلى «خلية للعاشقين» الذين ينتظرون قدوم محبوبهم على أحر من الجمر، ليغيروا أنماط حياتهم في كل لحظة، من أجل أن ينعموا بتجديد حياتي دائم تكسوه بسمات الحب الحلوة.
إنه الحب الذي يحطم «ظلال الأناة وجبروتها وغطرستها» تلك الأناة التي إن وصلت إلى مرتبة الغرور والانشغال بالنفس وعدم توقير الآخرين، فإنها بلا شك تصبح «ضيفاً ثقيلاً» على النفوس!!
إنه الحب الذي يحتضن العطاء، ويفتخر بمعاني الوفاء، فيحتضنها ويجعلها نقشاً رائعاً على صخرة العمر، يحرص على رسم لوحة فريدة في ألوانها وتقاسيمها بصبر وجلد.. يقول الشيخ سلمان العودة في هذا الشأن: «الحب لا ينتظر شكراً، فالشكر عنده القبول، الحب يعطي دون مقابل. الأنا يأخذ ولا يعطي، وإن أعطى فلكي يأخذ، يأخذ المديح، أو العلو والتفوق، أو العوض، من يعش من أجل ذاته يعش مرة واحدة ويموت سريعاً، ومن يعش من أجل الناس يعش مرات، فروحه تقسم في أرواحهم. لنكن منصفين، البر والتضحية سمة لكثيرين حفظوا الوفاء».
إنه الحب الذي يحفظ معاني الإخاء ويجعلها واقعاً ملموساً مشاهداً لمجتمع حميمي يحفه الخيرات وتغشاه الرحمات، فيفزع القلب الرحيم لنجدة أخيه، ويواسي الأخ الكبير كل محبيه، فيحب للآخرين ما يحب لنفسه كما قال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».. حب «عملي» وليس بحروف عشق معسولة «مؤقتة»!! حب يقوم بواجبات الإخاء ويتحين الفرصة المواتية للظفر بسعادة قلب أحبه حتى يلتقيه في الفردوس الأعلى على سرر متقابلين.
للحب فصول كثيرة.. أحلاها أن نكون شموعا للناس.. ننشر الخير.. بكل الحب.