عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير المغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط». وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هن أسن مني». وجاء شيخ ذات يوم يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فأبطأ القوم أن يوسعوا له، فرق له رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمه، وقال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا». وما أروع ما قاله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم فتح مكة حين أتى بأبيه أبي قحافة، وكان شيخاً كبيراً مسناً ليسلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت الحرام، فقال: «هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟».
مع كل مناسبة عالمية يحتفل بها العالم، تتجدد في الذاكرة مشاعر الحب والود تجاه المعاني الإنسانية التي لها بعض الإضاءات السريعة هنا وهناك تعطي المرء قوة دافعة لإرسال إشارات متناغمة للآخرين تذكرهم على عجل.. بأن الحياة إنما هي أحاسيس تجاه من تحب.. وهي أحلى ما تكون مع أولئك الذين أفنوا حياتهم ونذروا أنفسهم من أجل فلذات أكبادهم حتى وصلوا إلى سن الرعاية والاهتمام والعجز.. فلم يعد باستطاعتهم أن يقدموا تلك الخدمات الجليلة التي قدموها في مراحل قوة نشاطهم وعزمهم وعنفوانهم.. إنهم كبار السن مع التحية.. أو بمعنى أصح للوالدين مع التحية والتقدير.. فالعالم احتفل مؤخراً باليوم العالمي للمسنين تحت شعار: «المستقبل الذي نريد: ما يقوله المسنون» في إيحاء واضح إلى المكانة المرموقة التي يجب أن يرسمها الجميع على خارطة حياته من أجل أن تكون خبرتهم وتجاربهم ومضة نجاح في حياتنا جميعاً، لا أن يركنوا على هامش الحياة، وتتقاذفهم أمواج الصخب والتضجر والتبرم من ضعفهم وهوانهم وعجزهم عن المسير المتمكن في واحات الحياة!! وبحسب تقرير الأمم المتحدة بأن هناك الآن ما يربو على 700 مليون نسمة تزيد أعمارهم عن 60 عاماً، وبحلول عام 2050 من المتوقع أن يكون هناك بليوناً نسمة، أي ما يزيد عن 20% من مجموع سكان العالم تبلغ أعمارهم 60 عاماً أو أكثر.
يا بني.. حطمتني يد الأيام، وتركني الزمان أعيش وحيداً هناك بين ثنايا الحياة.. ليس لأني لم أستطع أن أصنع نجاحاً في حياتي، وليس لأني لم أتمكن من أن أقبل لوحات السنين بقبلات الفخر والاعتزاز.. ولكن لأن أصبحت عبئاً على الآخرين يتحملون ضعفي وهزلي.. فلم أعد ذلك الفارس المغوار الذي جاب الطرقات لينقلك على ظهره ويعتني بك ويخاف عليك في كل حين!
نعم يا بني.. تذكرت لحظات الجمال التي تزوجت فيها والدتك لأني على يقين بتكوين أسرة صالحة جميلة تحلق فوقها عصافير الحب والهناء والسعادة.. تذكرت لحظات الألم والتعب والنصب وأنا أكابد العيش لأصنع لك نجاحاً ومستقبلاً باهراً، ومن أجل أن أوفر لك لقمة هانئة تكفي لقوت يومك، وأحتضنك مراراً وتكراراً فأهمس في مسامعك بأني «أحبك» ليس من أجل نفسي.. ولكن من أجل أن أعلمك المزيد والمزيد فأضحي بالأوقات وأوفر المال لأفتخر بك عندما ترتقي سلم المجد والتميز.
كنت أتلذذ بمعيتك وصحبتك ويدك الطفولية البريئة التي كانت تعطيني جرعات الحب الدافئ الحنون، فعلى الرغم من سهر الليالي مع والدتك وتعب الأيام وكبد الحياة إلا أن الحب والحنان والجمال الذي رسمته داخل نفسي، أعطاني فسحة كبيرة من الأمل بأن الحياة ستكون أكثر جمالاً في كل مرحلة من مراحلها.. إلى أن شهدت تلك اللحظة الجميلة.. وما أروعها.. وأنت تتزين على منصة الزفاف بجانب الفتاة التي أحبها قلبك واخترتها لتكون شريكة حياتك.. حينها بكيت وبكيت بكاء الفرح وبكاء مغادرتك للمكان الذي ترعرعت فيه.. ثم أعايش لحظة أخرى جميلة.. بأطفالك الصغار.. الذين ذكروني بك عندما كنت صغيراً.
آه ثم آه.. إنها بالفعل حياة مليئة بالتعب.. ولكن الفرح فيها أجمل.. برؤيتك وأنت تنتقل من طور إلى آخر.. بالفعل أفرح لك والشوق يسيرني للارتماء طيف حبك في كل حين.. فلا تتركني لوحدي هنا.. أقاسي لوعات الحياة.. وتحمل آفات كبري وقسوتي أحياناً.. فلا زلت ذلك الأب الحنون الذي ترعرعت بين يديه.. وتذوقت حنانه وعطفه وابتساماته الحلوة..
ابني، أحبك بالرغم من كل شيء.. رجائي إليك.. برني اليوم في كبري.. يبرك فلذات كبدك عند كبرك.. وبرني عندما أوارى التراب.. وادعو لي «وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً».