خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس، فقال: «أيها الناس: إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين، آجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وآجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت». وقيل لنوح عليه الصلاة والسلام، وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً: «يا أطول الأنبياء عمراً! كيف رأيت هذه الدنيا؟». فقال: «رأيتها كداخل من باب وخارج من آخر». وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه فيما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه». وخطب الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه الناس، فقال: «إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا».
ولله در القائل:
مـــــرت ســــــنين بالوصـــــــال
وبالهنا فكأنها من قصرها أيام
ثــــم انثنـــت أيام هجر بعدها
فكأنها مــــن طولهـــا أعـــوام
ثــــم انقضـــت تلك الســـنون
وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
هل تأملتم تلك الشجرة الباسقة التي تغير أحوالها فصول السنة، ثم تأتي لحظات مؤلمة من حياتها تتساقط منها الأوراق «الثمينة» بعد أن اصفرت؟ وهل تأملتم تلك الورود التي انقطع عنها مداد الماء فذبلت وتحولت إلى «كيان موحش»؟ هل تأملتم مراحل حياتنا تتلون منذ أن كنا في بطون أمهاتنا خلقاً من بعد خلق؟ كما يقول المولى تعالى في سورة الحج: «يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى، ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم، ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر، لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً..». هل تأملنا قصر الحياة، وسرعة انقضاء الأوقات حتى بتنا لا نفرق بين الدقيقة والساعة واليوم والشهر؟ هل تأملنا ذلك الفتور المخيف في حياتنا، وتلك الغفلة المريبة، والانصهار الأعمى في الملذات، وعدم الاتعاظ بحوادث الدهر؟ هل تأملنا تلك النفوس العابثة في دنياها، التي لا هم لها إلا إضاعة أوقاتها في التفنن بتوافه العيش؟ وهل وهل..؟
فعندما ينقضي عام من أعمارنا.. ونحن نتنفس في هذه الدنيا، فلنحمد الله تعالى على ذلك بأن أبقانا إلى هذه اللحظات لنعيش في مصاف أهل الخير، ونستزيد من عمل الخير من أجل جنة خالدة، وعندما ينقضي عام من حياتنا فلنتعظ بأولئك الذين حرموا أبسط مقومات الحياة وأضحت حياتهم لا تطاق في ظل المعاناة الأبدية التي يعيشون فيها، والابتلاءات المتتالية التي حرموا معها من الابتسامات المشرقة، إنها قافلة الحياة السريعة التي تسرع الخطى نحو الآخرة، وتعطي دلائل وإشارات بينات للغافلين في الركب، بأن الحياة في زوال، وإنما هي فترات معدودات سننتقل بعدها إلى حياة أخرى مرتبطة بحجم العمل الذي قمنا به في هذه الدنيا.
بالأمس كتبنا عن انقضاء «عام من أعمارنا» بانقضاء سنة هجرية، واليوم نكتب عن رحيل عام من حياتنا بانقضاء «سنة ميلادية» حافلة بحلوها ومرها وأحداثها التي تعطينا أجمل العظات لتغيير أسلوب المسير، في هذه الفترة انتزعت ورقة من حياتنا، كنا بالأمس نعد العدة لنكتب فيها أهدافنا ورؤيتنا وأحلامنا، ولكن ما أسرع أن رحلت مع غبار الحياة، ما أسرع أن سقطت تلك الورقة فلم يعد لها أي اعتبار في حياتنا، فكأنما أحداثها سلسلة أحلام استيقظنا بعدها على بزوغ ورقة صغيرة أخرى تشق طريقها للنور.
عذراً.. فكلما تحدثت عن «أوراق العمر» اختلطت المشاعر والأحاسيس مع مداد القلم، تبحث عن عذر يشفع لها عند الملك الديان، تبحث عن رشفة «إيمان» ينتشلها من بحار الغفلة والنسيان، تبحث عن خير تسكبه في كل ميدان، فالحذر كل الحذر، فنفوسنا لم تستفق بعد من سباتها، وتعتقد بأنها ستعيش إلى الأبد في «كون» سيزول يوماً ما، عذراً لكم، فدموعي ساخنة نادمة على ما فات، تتذكر تلك المحاسبة الربانية، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة».