ما أروع أن نعيش بالحب داخل الكيان الأسري، وما أجمل أن نستطعم تلك العاطفة الجياشة التي نتبادل بها شجون الحياة ومتطلبات العيش. تلك العاطفة النابعة من قلوب لا تعرف للحقد معنى، ومن نفوس تعشق السعادة الدائمة، عاطفة يتبادل بها الأبناء تعبيرات حبهم وبرهم بالآباء، ينحتون من خلالها رموز النجاح على صخرة الحياة، عاطفة تبث رياحينها تلك الأسرة الودودة التي ارتسمت الابتسامة على محياها، وعشقت أن تبقى رائعة بكيانها، أسرة تنطلق للحب ومن أجل الحب، تمسح بأناملها الرقيقة تلك الأفئدة العاشقة للحب، وتتجمل بلباس نقشت عليه زخرفة الأمل، أسرة تمتد ببصرها نحو أفق العيش الهادىء، وترفرف بجناحيها في سماء السكون النفسي، وتمد بظلالها لتحمي عصافير الخير من تلك الحرارة القاسية، حتى يبقوا دائماً في مظلة الحب.
نحتاج اليوم وفي الغد بأن نبني الحب ببرنا بآبائنا وأمهاتنا في كل أركان بيوتنا، حتى تتولد طاقة جبارة، وثقة متبادلة، تدفعنا إلى أن نحقق نجاحاً في قلوبنا قبل الآخرين، وفي أسرنا قبل مجتمعاتنا، إنها أسرة الحب التي لولاها لأصبحنا في تيهان الحياة، فهي الملاذ الآمن الذي يعود إليه الإنسان بعد عناء ومكابدة هذه الحياة المتسارعة خطواتها نحو الآخرة.
نحتاج للبقاء في ساحة البر نقرأ سطور الحب كل يوم على تقاسيم جباه أغلى الأحباء الذين يقاسون كل يوم أشواك التضجر والسآمة والملل وهم يتقاذفون يمنة ويسرة على أرض الحياة المتعرجة تضاريسها، نحتاج لأن نمحو أي أثر تبقيه دوامة الحياة، ليبقى في نهاية المطاف ذلك الشعاع الساطع الذي يشع في قلوبنا بركة وأملاً وتفاؤلاً بالمستقبل.
وبعد ذلك كله، من العيب حقاً أن نتغافل عن أسرة الحب دون أن نحس، فترانا نتأمل على ساحل الحياة في ذلك الأفق البعيد الممتد نحو سنين مضت وسنين ستأتي لا ندري أنكون بين أطيافها ونصنع تاريخها!
نتأمل عاتبين على صنيعنا مع من رضاهم من رضا رب العالمين، ولكن سرعان ما غلبتنا نشوة الفرح والسعادة، لأننا ندرك أن الحب سيصنع الكثير إن فهمنا معناه الحقيقي، وأحببنا والدينا من أعماق قلوبنا، حينها سيكون الحب في كل أرجاء دوحة أسرتنا الحبيبة، وبه سيكون البر أعز كلمة تنطق بها شفاهنا من أجل أن نلتقى مع من نحب في جنان الله الخالدة، كلمات جياشة سيفهمها من عشق الحب داخل أسرته.
يستثقل البعض أن يجمل نفسه بمدلولات «البر» التي تتمازج مع أطياف «الحب»، ظناً منه أنه سيسير في منحنى لا يطيب خاطره، وينخرط في متاهات لا ترضي الرب الرحمن، لذا تراه يسير حياته، بل حياة أسرته الغالية بمنظور العبوس وتقطيب الجبين فلا تراه يعطي حياته الأسرية حقها من الاهتمام والرعاية والمتابعة و«المعايشة اللطيفة» النابعة من كيان البر والحب، ألا يعلم صاحبنا أنه بهذا الصنيع سوف يولد طبائع نفسية وجسدية لأفراد الأسرة عندما يتعاملون مستقبلاً مع من يكبرهم سناً، أو على الأقل معك أنت، وهو الذي أعده البعض «عقوق للوالدين» بمجرد تقطيب الجبين أمامهما!
إننا اليوم في مسيس الحاجة لتكوين رؤية تربوية جميلة في مساحات كل بيوتنا وأسرنا، رؤية نستنهض من خلالها الهمم، وندفع الجميع لكي يعيشون مع غيرهم «بالبر والحب» فيتنفسون ومضاتها، ويتلذذون برحيقها، وينثرون أزهارها على كل فرد من أفراد أسرهم، هم بذلك يصنعون «قدوة عملية رائعة» تجوب طرقات الحياة لتتعامل مع الجميع «بأحاسيس الحب» فتؤثر فيهم وتنقلهم إلى فيوض الخير والسعادة، رؤية نربي بمكوناتها فلذات أكبادنا، فنعلمهم كيف يحبون وكيف يتعاملون بالحب، وكيف يقودون حياتهم بلا تكلف ولا ضجر ولا سآمة، نعلمهم أن الحياة «جميلة جداً» إن استطعنا أن نجدد فيها كل مراتب العيش، ونبتعد عن تلك «المشاعر الصاخبة» و«الإزعاجات المتكررة» التي تبدر من أولئك الذين حرموا أنفسهم أبسط مقومات «جمال الحب».
عندما استرسلت في كتابة معاني الحب والأحاسيس والمشاعر المتدفقة من أنهاره، لم أتمكن أن أنهي هذا الفصل الجميل الذي تكلمت عنه، وبخاصة أنها تحتضننا في كل نواحي حياتنا وبداخل «أسرتنا الحبيبة» التي أسميتها أسرة البر، ذلك لأني على يقين أن الحديث لا ينتهي، وله فصول أخرى، وملامح أخرى، وغيوم غائبة، تنتظر برودة الشتاء وتقاسيم السماء الجميلة، فعذراً لكل من يقرأ هذه الكلمات، لأنه يحتاج أن يقرأ كل حرف فيها بأحاسيسه وبقلبه حتى يعيها جيداً. ستبقى «أسرة البر» تصنع الحب وتتنفسه ويسري في شرايينها في كل لحظات حياتها، لأنها المصنع الأول والأخير لشخصيات تقود الحياة وتتعلم معانيها وتتفهم كيف تديره مع الآخرين، وبالأخص مع من هم أعز البشر في هذه الحياة.