قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأما طوافك بالبيت إذا ودعت، فإنك تخرج من ذنوبك كيوم ولدتك أمك». وقال الله تعالى: «فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً». يقول الإمام زين الدين ابن رجب رحمه الله: «وفي الأمر بالذكر عند انقضاء النسك معنى، وهو أن سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها، وذكر الله تعالى باق لا ينقضي ولا يفرغ منه، بل هو مستمر دائماً..».
ويقول الدكتور مصطفى السباعي في مذكراته: «لست أرى في الدنيا فرحة تعدل فرحة الحجيج بعد أداء مناسك الحج، ومن شك فليجرب». ويقول: «رأيت الحجاج يتسابقون في العودة إلى بلادهم بعد أداء شعائر الحج، ولو كان الحج قد عمل عمله في أرواحهم لأحبوا أن يمكثوا بعده قليلا».
هنيئاً لأولئك الذين حباهم الله تعالى بنعمة زيارة بيته الكريم، والتنعم بضيافة الرحمن ووفادته، هنيئاً لمن أكرمه المولى بأن يكون في ساحة المباهاة والتجلي في ساحة عرفات، هنيئاً لمن اختاره المولى ليكون في ضيافته ويفوز برضاه ومغفرته ورحماته، هنيئاً لمن أكرمه المولى عز وجل بأن يعود صفحة بيضاء إلى وطنه ومن ذنوبه كيوم ولدته أمه، ما أروعها من لحظات مباركات قضيناها مع حجاج بيت الله الحرام في الأرض المباركة، صفت فيها النفوس وامتزجت الأرواح حبا في بارئها العظيم، ما أجملها من لحظات رائعة لم نصدق أننا أنهينا أعمالنا فيها بسرعة لا تصدق، ما أبهاها من أيام فاضت فيها العبرات، وتجلت فيها الرحمات، وتعلقت النفوس ببارئها العظيم شوقا وحنينا لكرمه ومغفرته ورحمته، وتعلقاً بالفردوس، وحباً لتلك الجوائز الربانية التي منحها المولى العظيم لكل من وقف على صعيد عرفات، ولكل من طاف وسعى ورمى الجمرات وبات بمنى، ما أحلاها من أيام مضت سريعاً تنفسنا نفحاتها، وطهرنا أنفسنا من شوائب الدنيا وكبد الحياة وتلاطم أمواج الأحداث وزحمة العيش.. ما أجملها من أيام فزنا فيها بأحباب في الله تعالى توطدت معهم العلاقات، وارتقت الأنفس في مدارج المحبة في الله حباً لما أعده المولى العظيم للمتحابين فيه وللمتجالسين فيه.
إنه الأمر الرباني الحكيم بأن يظل المسلم بعد الحج متمسكا بشرع الله القويم، وبهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، إنه الأمر الحكيم «فاذكروا الله» بعد انقضاء المناسك ليظل المسلم على درب الاستقامة والهداية لا ينقطع عن بارئه الكريم، يدعوه ويذكره في كل حين، ويطلب من المولى الإعانة والقبول والتوفيق، لسان حاله: «ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم».. ولسان حاله: «اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك». إنه الأمر الحكيم بأن نظل جميعاً في حالة قرب من ربنا الرحيم الذي تكرم علينا بعفوه، وأسبغ علينا بكرمه، وأفاض علينا من رحماته وخاطب ملائكته في يوم عظيم وفي بلد عظيم وفي موقف عظيم وقف فيه الحجاج: «أشهدكم بأني قد غفرت لهم».
جدير بنا بعد كل ذلك الكرم الإلهي في تلك الرحلة الإيمانية الجميلة العبقة.. وبعد ذلك الاندماج الروحاني لكنوز الأجر، وبعد ذلك الانعزال التام عن شهوات العيش والارتباط الروحاني برب البريات، أن نواصل العيش في مدارج الخير لتلك الأحاسيس الربانية الرقيقة التي عشناها في أروع أيام العام على الإطلاق، نواصل التذلل والانكسار بين يدي الرحمن، ونواصل العيش في مواطن الخيرات بلا انقطاع، ونظلل حياتنا بالإخلاص والذكر والطاعة والصدق في التوجه إلى المولى الحكيم سبحانه وتعالى، ونواصل ذلك التعب والمشقة التي تذوقناها طاعة للرحمن أثناء وفادته، لتكون البلسم الشافي لجروح حياتنا طوال العام، نستشعر أجرها في كل الظروف والأحوال، جدير لكل من حافظ على الطاعات أن يستمر عليها في كل لحظة من حياته بلا انقطاع، حتى يصنع بسلام خاتمة رحيله من دنيا البشر، فيتركها بسلام، وينتقل معها للدار الآخرة بسلام واطمئنان وبروح وريحان ورب راض غير غضبان.
حمداً لك يا رب، يا من منحت حجاج بيتك هذه الفيض الرباني، وجعلتهم يتنعمون بالأجر والرحمات، ويسكبون العبرات، ويفوزون بالرضوان والعتق من النيران، لك الحمد أن سخرت لنا مواسم الخيرات، لنطهر النفوس من العثرات، ونجدد المسير في طريق الخيرات، حمداً وشكراً لك، فقد منحت الفرصة لكل من فاز برحلة إلى الحج، منحته أن يطهر نفسه ويجدد المسير إليك.
سيبقى الحج ميدان الخير الذي يصنع حياة جديدة للحجاج، ولكل من لم تسعفه الظروف أن يكون من ضيوف الرحمن، سارع وبادر فالعمر ينصرم، ولا تفوت فرصة اغتنام الخيرات في لحظات التجلي، هناك في صعيد عرفات.