ليست مصادفة أن يتم تفجير منارة الحدباء الأثرية والجامع النوري الكبير في مدينة الموصل العراقية التي نكبت ودمرت بمخطط كبير تديره مخابرات وأجندات ودول كبرى وإقليمية في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان «ليلة القدر»، وكما حصل وبنفس التوقيت والأسلوب مع جامع ومرقد النبي يونس عليه السلام من قبل تنظيم «داعش» الإرهابي قبل ثلاث سنوات عجاف، ليعكر على عباد الله تبتلهم وقيامهم. اختيار التوقيتات لتنفيذ الأعمال الانتقامية والإرهابية والتخريب في بلاد الرافدين فيه لغز، وهو مرتبط بوقائع ثأرية إما تاريخية أو تعبدية عقائدية، ووراءه إيادٍ خفية تعيد للذاكرة التأكيد على أن الصراع بين الأمة وأعدائها له جذور ولن ينسى الأعداء انكساراتهم حتى وإن عفى عليها الزمان!!

وبعيداً عن الانفعالات والعاطفة التي تواكب هكذا أحداث سنسلط الضوء على أمور بات حتمياً على المثقف العربي معرفتها وإدراكها اليوم لربط ما يجري من أحداث متلاحقة.

لقد تعرضت مدينة الموصل إلى الكثير من الغزوات حالها حال مدن العراق قبل وبعد الفتوحات الإسلامية.

ومن الغزوات التي سطع فيها اسم الموصل عالياً هي إفشالها لغزو «نادر شاه»، وحصاره لها عام 1156 هـ، عند توجهه بجيشه مخترقاً العراق من شماله ومصوباً بجنده نحو عاصمة الخلافة العثمانية، لكنه اندحر وفشل عند أسوارها، فشكلت هذه الواقعة عقدة مستعصية لدى الصفويين ومن أعقبهم. ولننتقل بكم سادتي إلى العصر المدني الحديث، فبعد انهيار الخلافة العثمانية وتقاسم إرثها الفرقاء، تشكل العراق الحالي وأصبح من حصة الإنجليز، فتأسست فيه الأحزاب العلمانية، وابتعد كلياً عن الحكم القبلي والديني، فانتظمت فيه المؤسسات المدنية، وتم تأسيس الجيش العراقي وفق عقيدة المواطنة، وتدرجت في البلاد الطبقات السياسية وتناسقت، فانتقل الحكم وبعد حراك دموي من الحالة الملكية إلى الجمهورية، ورغم المآخذ التي سجلت على ذلك التحول الجوهري إلا أن الحياة السياسية بدأت تتبلور فيه إلى أن استقر بشكله المدني الحديث وأصبح العراق أنموذجاً في الاستقرار والازدهار في المنطقة، ثم حدثت الثورة الانفجارية فيه بعد تأميم النفط ولم يدم ذلك طويلاً، فتنبه الكيان الصهيوني والغرب لذلك النمو الاقتصادي والعلمي والصناعي فبدؤوا بوضع مسلسل تدميري له وكانت بداية الانحدار بعد أن تم دفعه وتوريطه في التصدي ولوحده منفرداً للثورة الخمينية ولـ8 سنوات عجاف، مما سرع في تفككه وانهياره اقتصادياً، وما أعقبه من انهيارات على جميع الأصعدة، بسبب تلك الحرب الضروس، وما أعقبها من تداعيات وإفرازات وكان أخطرها على الإطلاق الخطأ الجسيم الذي وقع فيه النظام في غزوه لدولة الكويت الشقيقة، وما أعقبه من الحصار الذي أتى على اقتصاده بالكلية، ثم تطويقه وتفكيكه وعزله بفرية امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، مما أعطى بعدها الذريعة لكل من له ثأر قديماً وحديثاً مع العراق بأن يجتمعوا عليه ويوحدوا نهجهم للاقتصاص منه ومن شعبه، فسقط العراق كدولة حديثة بعد احتلاله عام 2003 وتم حل جيشه وجميع مؤسساته المدنية ومن ثم تم تسليم مقاليد حكمه نكاية إلى عدوه التاريخي «إيران»، لتنفذ مخططاً بالوكالة بعيد المدى وبدأ من هنا مسلسل تصفية الثارات.

وليس مصادفة أن يتم اختيار الموصل من بين مدن العراق لتكون عاصمة للخلافة المزعومة ولتتحول بعدها إلى ساحة صراع فهي تمثل قديماً وحديثاً العقدة المستعصية لبسط نفوذ إيران والامتداد منها إلى دول الجوار، كما تمثل الثقل الأكبر للمكون السني والذي من الصعب جداً ترويضه ليتوافق مع المشروع الإيراني، فكان لا بد من إيجاد من ينفذ المهمة وبتحريك وتنسيق عالي المستوى منضبطاً خارجياً وداخلياً، فنجح الدهاء والمكر الإيراني هذه المرة ودكت المدينة دكاً، تارة بأذرع الإرهاب متمثلة بتسليم مقدراتها باتفاق وتنسيق لتنظيم «داعش» وأخرى بحجة إخراجه منها وتدمير المدينة تحت مسمى التحرير!

وما ولد ولا ترعرع ذلك التنظيم إلا من تحت عمائم وعباءة الملالي!!

وليست العبرة اليوم بمعرفة من امتدت يده بالغدر «لمئذنة الحدباء أم المنارات» لتخر ساجدة حاضنة لأبنائها الشهداء في ليلة القدر!! وليست العبرة بتشخيص من قتل وهجر، أو قصف وفجر، وجرف وطمس المعالم التاريخية والأثر.. فمثلث الإرهاب لم يعد خافياً على أحد!!

بل العبرة في استخلاص الدروس والعبر وكيفية الخروج من المأزق وعدم الاستسلام وهجر المدينة وتركها للفرس والإفرنجة والغجر!!

فالجميع قد تمترس حول المدينة العراقية التي تمثل العراق كله، ومارسوا فيها الإرهاب بأبشع صوره.. ولن ينتهي قريباً المسلسل الإجرامي في الموصل بعد بروك الحدباء، فلملموا يا رعاكم الله من بين الركام أشلاء حدبائكم، ونقشها الذي ينافس بقيمته اللؤلؤ والدرر، وأصبروا يا أبناء شعب العراق الأبي، على عاديات الزمان والقدر، فإن لله الحكمة البالغة من قبل ومن بعد وإليه يرجع الأمر كله!!