تعوّدت وبشكل يومي أن أمر بمحاذاة الشارع الذي يقع عليه المبنى التاريخي القديم لمدرسة الهداية الخليفية بمدينة المحرق حيث هو الطريق المؤدي للوصول إلى سكني.. وطوال هذه السنوات لم أجد ما يلفت نظري فيه سوى تغير الإعلانات بين فترة وأخرى، أو في المناسبات الوطنية أو ما شابه ذلك.. حتى فوجئت هذا الأسبوع وأنا أمر بسيارتي ليلاً بإضاءة جميلة وأنيقة تنم عن ذوق راق تحتوي شتات أطراف هذا المبنى بشكل لافت.. مما جعلني أطيل النظر إلى المبنى وكأني أراه للمرة الأولى..لأسترجع الفرحة التي غمرتنا ليس نحن أهل المحرق فحسب، وإنما أهل البحرين جميعاً عندما أمر جلالة الملك المفدى حفظه الله ورعاه بتطوير مدرسة الهداية الخليفية لتكون جامعة وطنية جديدة في مدينة المحرق العريقة.. نعم هذا ما نراه من تطوير وتغيير في المحرق الجميلة.. وهذه الإضاءة التي تمت احتفاء بالمحرق عاصمة للثقافة الإسلامية لهذا العام لتقول لنا بأن المحرق قلب جميل ينبض في جسد البحرين.. وكان هذا تزامناً مع افتتاح أعمال الاجتماع الـ 42 للجنة التراث العالمي الذي تستضيفه مملكة البحرين برعاية كريمة من حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه.. وبحضور شخصي كريم من صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد نائب القائد الأعلى النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء والمديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو».. وشخصيات دبلوماسية وإعلامية وخبراء ومختصين في مجال التراث، وممثلين لوفود دول من مختلف أنحاء العالم.

تمثل الثقافة والتراث بمصطلحيهما المادي وغير المادي عنصر جذب كبير بين شعوب العالم، وعلماً يتشكّل مفهوماً وتنظيراً بين الخبراء والمهتمين والمنظمات الدولية، وخصوصاً منظمة اليونسكو التي تحرص على توثيق هذا التراث باعتباره ذاكرة للثقافة والشعوب.. من خلال وضعها للعديد من القوانين واللوائح والاتفاقيات التي تنظم هذا التراث وتساعد على توثيقه ونشره على المستوى العالمي، وعقد المؤتمرات المتخصصة بشكل مستمر.. وما الاجتماع الأخير للجنة التراث العالمي الذي يعقد في مملكة البحرين إلا انعكاس لهذا الاهتمام العالمي بالتراث. وكان السؤال الذي يلح عليّ وأنا أمر على مدرسة الهداية الخليفية بعد مشروع إضاءة مبناها والذي يرمز إلى بدايات التعليم النظامي في البحرين.. ممزوجاً بشعور الفخر والاعتزاز لهذا التقدير العالمي لوطني البحرين..هل استطاعت البحرين عبر السنين الماضية أن تكون بقعة مضيئة في اتساع اهتمامات العالم بالتراث الإنساني.. ومن يقف وراء هذا الإنجاز المبهر الذي يدفعنا الآن للكتابة عنه؟

استرجعت ذاكرتي الكثير من المشاريع التي تم تنفيذها مثل ترميم القلاع التاريخية وإضاءتها، ترميم بعض البيوت الثقافية والتراثية في مدينتي المحرق والمنامة، المهرجانات الفنية والتراثية والمعارض الثقافية وغيرها.. والمشروع الكبير الذي يتم تنفيذه حالياً بمدينة المحرق وهو طريق اللؤلؤ الذي يرصد رحلة الغوص من البداية حتى النهاية والذي تم إدراجه على قائمة التراث العالمي لليونسكو عام 2012.. وآخرها توجيه جلالة الملك المفدى بإعادة تأهيل وترميم بعض أحياء «فرجان» مدينة المحرق والعديد من المشاريع المخطط لتنفيذها.

كل هذه الجهود الدؤوبة والمستمرة والإنجازات التي تتحقق تقف وراءها سيدة مسؤولة تبذل قصارى جهدها من الاشتغال على التخطيط والاتصالات وتذليل الصعوبات لوضع البحرين على خارطة التراث العالمي.. شخصية رائدة في المشهد الثقافي العربي والعالمي.. هي معالي الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار وفريق من العاملين معها من الذين يتمتعون بنفس درجة حماسها في الاستثمار الثقافي.

هذه المشاريع يجب أن توثق في مناهجنا التربوية ووسائل إعلامنا بمختلف أنواعها كي يعلم هذا الجيل والأجيال القادمة أن البحرين تتكئ على عمق تاريخي زاخر بالإنجازات يمتد إلى خمسة آلاف سنة.. وأنه محل تقدير دول العالم والمهتمين والمؤرخين والمشتغلين على قضايا الثقافة والتراث.. كي يفخر كل بحريني بتاريخ وطنه.. وكي يعلموا أن وراء كل هذا الإنجاز قيادة عليا حكيمة توجه وتساند وتدعم كل الأفكار والمشاريع والجهود الهادفة إلى أن تكون البحرين دائماً وطن التسامح والتعايش والسلام من خلال تاريخها الطويل وشواهده التي تدل على هذه القيم الإنسانية الضاربة في عمق التاريخ.

إن القيمة الفعلية للدول - من وجهة نظري - ليست باتساع مساحتها الجغرافية وثرائها المالي.. وإنما بقدرة هذه الدولة أو تلك على التأثير العالمي من خلال تراثها الإنساني وعمقها التاريخي والحضاري الذي يبقى شاهداً على استدامة مكانتها على خارطة التراث العالمي.. وما مملكة البحرين إلا أنموذج جيد يشهد له العالم بهذا التفرد.