إن أخطر ما يمكن أن تُصاب به المجتمعات هو الاستبعاد المنهجي للمواطنة كأساس للتعايش. ولذلك نجد الذين يستبعدونها من هذه المعادلة، هم الذين يكرسون مصالحهم وتسلطهم على الناس غير عابئين بالمخاطر التي قد تصل إلى تهديد وحدة المجتمع والدولة ووجودهما في التاريخ، واحتمال دخولهما في نفق مظلم من الانقسامات والصراعات التي لا تبقي ولا تذر. لأنه ومع سيادة التصنيف الطائفي، لن يجد المواطنون قاعدة للمساواة بينهم عندما يجري التمسك بقوة بالهويات الفرعية الصاعدة، في مفارقة عجيبة بين رفع شعارات الدولة المدنية الديمقراطية، وبين تكريس هذه الهويات، فكراً وشعاراً وممارسة وانعزالاً.

صحيح أن الهوية بطبيعتها ضدّية حتى في أكثر المجتمعات تقدماً، إلا أن المخرج الذي وصلت إليه الدول الأكثر تقدماً لتجاوز مكوناتها الطائفية والعرقية والقبلية والمناطقية هو المواطنة المتساوية، كأساس يرتكز إليه التَّنوّع الذي يجب أن يقوم على وفاق اجتماع سياسي. يقضي بتجاور الهويات ما دون الوطنية، من خلال ميثاق وطني، يرتكز بدوره على القانون والدستور. وهو المدخل الوحيد لإنهاء الفوضى في الاجتماع السياسي والقضاء على عوائق التقدم الاجتماعي والثقافي.

أما الذين يقاتلون على جبهة التفتيت والتفكيك، استناداً إلى أسس غير وطنية مهما كان شكلها، فإنهم يفعلون ذلك في الغالب، من أجل تكريس مصالحهم وتسلطهم على البشر، وتكريس امتيازاتهم المادية والاجتماعية المعلنة وغير المعلنة. ولذلك فإن الأفق الوحيد المتاح أمامنا كبشر للتقدم والعيش المشترك هو أن نحتفظ بإيماننا الحر، وأن نخرجه من لعبة السياسة والسيطرة والمتاجرة. وأن نخرج الطائفيين من سلطة إيماننا وتسلطهم عليه وتوظيفه لصالحهم. وأن تحررنا بإيماننا الفردي، يسهم في جعلنا مواطنين أحراراً مستقلين، في مواجهة الآلة التفتيتية التي جعلت المجتمعات تعيش ازدواجية واضحة في مجال الانتماء السياسي بوعي مزيف موروث من مرحلة ما قبل الدولة الحديثة. ولكن من المؤكد أنه لا يمكن إلغاء الطائفية السياسية إلا في إطار إصلاح تدريجي لمعوقات بناء دولة المواطنة المتساوية. لأن إلغاءها يجب أن يكون في سياق تطبيق الديمقراطية وتكريس مدنية الدولة. ببناء دولة القانون والمؤسسات والمساواة، وتعزيز ثقافة التنوير، وتعزيز الوحدة الوطنية والتعايش والتسامح، ومن ثمة تعزيز الاستقرار المنتج للتنمية والسلام.

إن الخطابات المؤسسة على أنواع التمييز والتفتيت، مهما تظاهر أصحابها بأنهم من دعاة الوحدة ومدنية الدولة والمواطنة، فإنها تبقى معول هدم لا معول بناء، طالما أنها تتبنى المرجعيات التقسيمية للمجتمع كأساس، بل وقد يصل بها الأمر إلى التنظير لعدم الحاجة إلى الوحدة المجتمعية، استناداً إلى اعتقاد راسخ بحتمية تقسيم الناس، بعيداً عن إنسانيتهم التي تجمع شتاتهم، ليكونوا قادرين على مواجهة التحديات، وتحقيق الطموحات التي يجتمعون على تحقيقها. استلهاماً مما يجمعهم تحت مظلة الإنسانية، لتأسيس المستقبل المشترك.