حنان الخلفان



تحمُّل الضغوط والتحديات اليومية ليس بالأمر الهيّن على أي فرد، فكثيراً ما نجد أنفسنا عالقين في مواجهة ظروف شاقة تتجاوز أحياناً قدرتنا على السيطرة. ما كانت في الماضي مجرد عقبات مؤقتة تحولت الآن إلى اختبار دائم لصبرنا وقوتنا على التحمّل. ومع ذلك، يُثار تساؤل عميق: هل يُمكن أن يتحول هذا الصبر، الذي يُعتبر فضيلة، إلى شكل مستتر من الاستسلام؟ وهل يمكن أن يعكس تعامل البعض مع هذه الضغوط حالة نفسية مشابهة لمتلازمة ستوكهولم، حيث يصبح التكيّف مع الصعوبات قبولاً غير واعٍ للواقع المفروض؟

متلازمة ستوكهولم، التي ظهرت في السبعينات، جاءت كنتيجة لحادثة احتجاز رهائن، حيث أبدى الرهائن تعاطفاً غير متوقع مع خاطفيهم، ودافعوا عنهم بدلاً من رفضهم. هذه الحالة النفسية الغريبة تعكس تماهي الضحية مع الجلاد، إذ تدافع الضحية عن أفعال الجلاد بدلاً من مقاومته. وعلى الرغم من ارتباط هذه المتلازمة بمواقف احتجاز الرهائن، إلا أن أصداءها تظهر في مواقف حياتية أخرى نواجهها يومياً.

هناك فئة من الناس يعيشون تحت وطأة ضغوط العمل أو المسؤوليات العائلية، وكأنهم أسرى لهذه الظروف. البعض منهم يفقد القدرة على مواجهة الصعوبات، فيستسلم لها دون محاولة للتغيير، هذا الاستسلام، وإن بدا مبرراً في بعض الأحيان، يعكس نوعاً من التماهي مع الواقع القاسي، تماماً كما تتماهى ضحية متلازمة ستوكهولم مع أفعال الجلاد، مبررة قسوته.

التأرجح في الحياة، بكل ما تحمله من تحديات وضغوط، قد تتحول للبعض إلى قيد نفسي ثقيل، عندما نجد أنفسنا محاصرين بمتطلبات يومية متزايدة، ينشأ شعور بالعجز يدفعنا إلى القبول بما هو قائم. هذا القبول، الذي قد يُنظر إليه على أنه شكل من أشكال الصبر، قد يكون في كثير من الأحيان استسلاماً غير معلن. فالصبر الحقيقي لا يعني فقط التحمل، بل يكمن في القدرة على مواجهة الصعاب والسعي نحو التغيير، بدلاً من التعايش مع ظروف غير مقبولة.

تأتي هنا الآية الكريمة: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، «سورة الرعد: 11»، لتؤكد لنا مبدأً جوهرياً في الحياة. التغيير لا يأتي من الخارج، بل يبدأ من الداخل. تحسين الأوضاع يبدأ عندما يقرر الإنسان التحرر من الاستسلام السلبي، ويأخذ زمام المبادرة لإحداث التغيير الذي يتطلع إليه.

حين تتكاثر التبريرات وتتعاظم الأعذار، يصبح الهدم أسهل والرحيل أهون. وهنا تتجلى حكمة غاندي الشهيرة: «كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم». هذه المقولة تلخص ببلاغة فلسفة التغيير الداخلي كقوة محركة للتحول الخارجي، مشيرة إلى أن القوة الحقيقية تنبع من الذات، وأن الشجاعة تتجسّد في القدرة على اتخاذ قرارات جريئة لتغيير الواقع، بدلاً من الاستسلام لضغوطه.

الحياة الاجتماعية لا تخلو من الضغوط والتحديات. لكنها ليست الضغوط بحد ذاتها التي تميزنا، بل كيف نتعامل معها. البعض يختار المواجهة ويبحث عن حلول للخروج من دوامة العقبات، بينما يستسلم آخرون لتلك الظروف، وكأنهم رهائن لها. في هذه اللحظات، نرى أنماطاً سلوكية تشبه متلازمة ستوكهولم، حيث يبدأ الفرد في تبرير قسوة الظروف، مقتنعاً بأن التحمل السلبي والتكيف هو السبيل الوحيد للنجاة. ومع ذلك، فإن الصبر الحقيقي هو القدرة على مواجهة الواقع والعمل على تغييره بدلاً من التعايش معه دون أمل في تحسينه.

وبصراحة.. التحمّل والصبر هما فضيلتان عظيمتان، لكن علينا التمييز بين الصبر الفعّال والصبر السلبي. فالصبر الفعّال هو الذي يدفعنا للسعي نحو التغيير، ويفتح لنا أبواب التقدم والمضي في الحياة، أما الصبر السلبي، فهو استسلام مبرر يجعلنا نقبل بالأوضاع دون محاولة تغييرها، مبررين الركود تحت غطاء الصبر.

والسؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو: هل نملك الشجاعة لمواجهة أنفسنا وتحريرها من قيود ذاك الجلاد والمختطف؟ أم أننا نفضّل التمسّك بأعذار تُعيق تقدّمنا، وتمنعنا من تحقيق ما نطمح إليه؟