في الأيام الأولى من شهر أكتوبر يترقب الفيزيائيون حول العالم الإعلان عن الفائزين بجائزة نوبل في الفيزياء، وعن الموضوع أو المواضيع التي من أجلها منحت الجائزة في أكتوبر المنصرم لهذا العام، تم منح الجائزة لثلاثة علماء من دول متفرقة والذين أسهمت تجاربهم خلال السنوات الماضية في تسليط مزيد من الضوء على ما يعد من أغرب الظواهر الفيزيائية، ألا وهي ظاهرة الارتباط الكمومي وبعض ما يتعلق بها.

إن عالَم ميكانيكا الكم "المتعلق بدراسة الجسيمات الصغيرة كالإلكترونات والفوتونات" هو عالَم يتسم بالغرابة لاحتوائه على عدد من الظواهر غير المألوفة التي يتعذر تفسيرها من دون اللجوء إلى نظرية تختلف اختلافاً جذرياً عن النظريات المعروفة في الفيزياء الكلاسيكية، ألا وهي نظرية الكم. إن النظريات الكلاسيكية التي كانت قد نضجت تماماً في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي قد نجحت في تفسير العديد من الظواهر المختلفة التي يشهدها الناس في حياتهم اليومية أو يشهدها العلماء في المختبر، كحركة الأجسام السماوية والكهرباء والحرارة وغيرها. إن العالم الكلاسيكي يتسم بالدقة وعدم العشوائية؛ فالكسوف الذي شهدته سماء البحرين قبل بضعة أيام كان متوقعاً قبل ذلك بكثير، كذلك من الممكن توقع المكان الدقيق الذي ستقع عنده الكرة إذا عُرفت الظروف الدقيقة لكيفية رميها، إلا أن النظريات الكلاسيكية قد وقفت عاجزة أمام تفسير عدد من الظواهر التي نتجت عن تجارب أجريت على الجسيمات الصغيرة. ومن ضمن هذه الظواهر الغريبة ظاهرة الارتباط الكمومي وهي محور حديثنا هنا، فما هي هذه الظاهرة يا ترى؟

الترابط الذي نتحدث عنه في هذا المقام هو ترابط جسيمين بطريقة معينة بحيث لو تم رصد خاصية معينة للجسيم الأول ونتجت قيمة ما، فستتحدد قيمة هذه الخاصية للجسم الآخر بشكل حتمي بغض النظر عن المسافة التي تفصل هذين الجسيمين. لنفترض مثلاً أن الجسيمين المترابطين لهما خاصية تدعى "الاتجاه"، وكل منهما قد يكون متجهاً إلى الأعلى أو الأسفل عند رصده. عندما يكون الجسيمان مرتبطين كمومياً فإنه عندما نرصد اتجاه الجسيم الأول ونكتشف أنه متجه إلى الأعلى مثلاً، فسنعرف حالاً وعلى وجه اليقين أن الجسيم الآخر سيكون متجهاً إلى الأسفل حتى لو لم نرصده، وحتى لو كان بعيداً عن الجسم الأول مسافة كبيرة جداً. والعكس صحيح فيما لو كان الأول متجها إلى الأسفل فسيكون الثاني إلى الأعلى. هذه التجربة تم إجراؤها مراراً وتكراراً وتعتبر حقيقة علمية لا ريب فيها.



الغرابة في الموضوع أنه بحسب التفسير السائد لنظرية الكم فإن عالم ميكانيكا الكم يتسم بالعشوائية "على خلاف العالم الكلاسيكي"، فليس من الممكن دائماً توقع نتيجة الرصد مهما قمنا من حسابات دقيقة. إنه من المتعذر بحسب نظرية الكم أن نعرف على وجه اليقين اتجاه الجسيم الأول أو الثاني قبل الرصد؛ وذلك لأنه لا يوجد اتجاه محدد أساساً! فاتجاه الجسيم يكون في حالة مزدوجة بين الأعلى والأسفل، والرصد يجعله يقع بشكل عشوائي على أحد الاتجاهين. المشكلة التي طرحها آينشتاين ورفاقه في ثلاثينيات القرن الماضي تتلخص في أنه لو تم رصد الجسيم الأول، والرصد جعله يقع على الاتجاه الأعلى مثلاً، فما الذي جعل الجسيم الآخر يقع إلى الأسفل يا ترى وقد كان كلاهما في حالة مزدوجة؟! هذا الموضوع جعل آينشتاين يقول بقصور نظرية الكم بوضعها الحالي ويرفض فكرة الحالة المزدوجة قبل الرصد.

لكن التجارب التي أجراها الفائزون بجائزة نوبل هذا العام، وضحت بشكل قاطع أن آينشتاين لم يكن على صواب في هذه المسألة، ولو كان على صواب لتحتم أن يكون هناك نوع من التواصل السريع بين الجسيمين والذي تفوق سرعته سرعة الضوء، الأمر الذي يناقض آينشتاين نفسه في نظريته النسبية الخاصة.

إن هناك أشكالاً متعددة لحالات الارتباط الكمومي، والأمثلة التي ضربت في هذا المقال تعد أمثلة مبسطة لواقع أكثر تعقيداً بكثير. يجدر القول إن الارتباط الكمومي قد فتح الآفاق لعدد من التطبيقات التي تشهد تطوراً ثورياً في عصرنا الحالي، كالحوسبة الكمومية والتشفير الكمومي، قد نتحدث عنها في مقالات أخرى.

* أستاذ مساعد - قسم الفيزياء - كلية العلوم - جامعة البحرين