فُتحت "جبهة" جديدة في الصدام بين موسكو والغرب، إثر الغزو الروسي لأوكرانيا، بعدما منعت ليتوانيا عبور قطارات الشحن المحمّلة ببضائع خاضعة لعقوبات فرضها الاتحاد الأوروبي، من روسيا إلى جيب كالينينجراد، الواقع بين ليتوانيا وبولندا.

وأعلنت وزارة الخارجية الروسية، أنها استدعت القائم بالأعمال الليتواني في موسكو، وسلمّته احتجاجاً على تدابير "استفزازية" و"معادية".

ولوّحت الوزارة بـ"تحرّك روسيا للدفاع عن مصالحها الوطنية، إن لم تُستأنف حركة العبور بالكامل"، علماً أن موسكو تعتبر أن العقوبات الأوروبية على عبور البضائع، تنتهك اتفاقاً وقّعته مع الاتحاد في عام 2002، كما أفادت وكالة "فرانس برس".



ورأى الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أن قرار ليتوانيا يشكّل "سابقة"، متحدثاً عن "وضع أكثر من خطر ويتطلّب إجراء تحليل معمّق قبل بلورة أي تدابير أو قرارات".

وتشمل قائمة المواد المحظورة، الفحم والمعادن والصلب ولوازم البناء والتكنولوجيا المتطوّرة. وأعلن حاكم كالينينجراد، أنطون عليخانوف، أن الحظر سيطاول 40 إلى 50% من كل واردات الجيب. وأوضح أن هذه البضائع ليست معدّة للتجارة في أوروبا، بل لـ"إمداد" المنطقة، واصفاً الوضع بأنه "غير مريح، إنما قابل للحلّ".

وحضّ مواطنيه على عدم التهافت لشراء سلع، بدافع الذعر، مشيراً إلى سفينتين تنقلان بضائع بين كالينينجراد وسانت بطرسبرغ، ومضيفاً أن 7 سفن أخرى ستدخل الخدمة بحلول نهاية العام. وتابع: "عبّاراتنا ستنقل كل البضائع"، بحسب وكالة "رويترز".

ليتوانيا تطبّق "عقوبات أوروبية"

في المقابل، شدد وزير الخارجية الليتواني جابريليوس لاندسبيرجيس، على أن بلاده تنفذ "عقوبات أوروبية بدأ تطبيقها في 17 يونيو". وتابع: "تم ذلك بالتشاور مع المفوّضية الأوروبية وبموجب إرشاداتها. لن يُسمح بعد الآن للبضائع الخاضعة للعقوبات، بعبور الأراضي الليتوانية"، كما أفادت وكالة "أسوشيتد برس".

وأكد ذلك مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، قائلاً: "حركة العبور براً بين روسيا وكالينينجراد لم يتم وقفها ولا منعها. حركة عبور الركاب والسلع مستمرة". ونفى فرض أي "حصار" على الجيب، مشدداً على أن ليتوانيا لم تتخذ أي قيود أحادية. وزاد: "لن تتأثر بقية العالم بما يحدث في كالينينجراد، لكن بقية العالم تتأثر إلى حدّ كبير بما يحدث في أوكرانيا".

أما وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، فكتب على "تويتر": "لا يحق لروسيا أن تهدّد ليتوانيا. على موسكو ألا تلوم سوى نفسها على عواقب غزوها لأوكرانيا، من دون أي مبرر أو استفزاز".

أسطول البلطيق الروسي

يقيم حوالى نصف مليون شخص في كالينينجراد، التي تقع بين ليتوانيا وبولندا، العضوين في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهي معزولة عن بقية روسيا. ليست هناك مسارات عبور للجيب عبر بولندا، فيما يتلقى البضائع من قطارات تعبر بيلاروس وليتوانيا، كما أن أنابيب الغاز التي تصله تعبر ليتوانيا. ويمكن لروسيا إمداد الجيب بالسلع عن طريق البحر، من دون التعرّض لعقوبات الاتحاد الأوروبي، بحسب "أسوشيتد برس".

تستضيف كالينينجراد أسطول البلطيق الروسي، في ميناء بالتييسك، وهو الوحيد لروسيا الخالي من الجليد على بحر البلطيق.

وتزامنت أزمة منع مرور البضائع، مع اختتام مناورات نفذها الأسطول الروسي، في بحر البلطيق وكالينينجراد، بدأت في 9 يونيو بمشاركة 10 آلاف جندي ونحو 60 سفينة، بحسب وكالة "إنترفاكس" الروسية للأنباء.

ليتوانيا هي إحدى دول البلطيق الثلاث، التي تشعر بقلق خاص من خطط روسية محتملة لإعادتها بالقوة إلى حكم الكرملين. واعتبر جابريليوس لاندسبيرجيس أن الإطاحة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هو السبيل الوحيد لحماية الغرب وحلفائه من تهديدات مستقبلية لموسكو. وقال: "ليس بوتين فقط ولكن النظام بأكمله، إذ قد يغيّر المرء بوتين ودائرته المقربة، لكن بوتين آخر قد يحلّ مكانه".

وأضاف: "طالما بقي هناك نظام ينوي شنّ حروب خارج الأراضي الروسية، فإن الدول المحيطة به في خطر". وذكّر بحرب جورجيا في عام 2008 و"الحرب الأولى في أوكرانيا" عام 2014، معتبراً أن ذلك أظهر أن "روسيا دولة عدوانية".

صواريخ نووية

كانت كالينينجراد يوماً عاصمة لـ"بروسيا"، باسم كونيغسبرج، وأسّسها "الفرسان الجرمان" في عام 1255. قضى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط كل حياته في المدينة، وتوفي هناك عام 1804. كذلك أمضت الفيلسوفة الألمانية هانا أرندت جزءاً من طفولتها هناك.

غزا الاتحاد السوفياتي المدينة في عام 1945، بعد هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، إثر قتال مرير تعرّضت خلاله لدمار واسع. طُرد السكان الألمان أو فرّوا من المدينة، بعد انتهاء الحرب، بحسب "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي). ومع استقلال دول البلطيق عن الاتحاد السوفياتي، في عام 1991، تحوّلت المدينة إلى جيب روسي.

في عام 2016، نشرت موسكو في كالينينجراد صواريخ "اسكندر" القادرة على حمل رؤوس حربية نووية، ثم حدثتها في عام 2018، في إطار استراتيجية روسية لمواجهة نشر "الناتو" درعاً صاروخية مضادة للصواريخ الباليستية في أوروبا، وفق موقع "ذي كونفرسيشن".

ورأت ليتوانيا آنذاك في هذه الخطوة تهديداً لـ"نصف الدول الأوروبية"، علماً أن مدى هذه الصواريخ يبلغ 500 كيلومتر. وإذا أُطلقت من كالينينجراد، يمكن لصواريخ "اسكندر" أن تضرب أهدافاً في ليتوانيا وبولندا، إضافة إلى لاتفيا وإستونيا، وكلها من أعضاء "الناتو".

في عام 2018، أشارت شبكة "سي إن إن" إلى أن صوراً التقطتها أقمار اصطناعية، أظهرت أن روسيا تحدّث 4 من منشآتها العسكرية في كالينينجراد، التي وصفتها بأنها "موقع استراتيجي لروسيا على أعتاب الناتو". وأضافت أن صوراً سابقة التُقطت في ذاك العام، أظهرت أن الروس حدثوا مخبأً لتخزين أسلحة نووية في الجيب.

صعوبات اقتصادية

كانت كالينينجراد واحدة من أكثر المناطق ذات الطابع "العسكري والمغلق" في الاتحاد السوفياتي، وكان الجيش دعامتها الاقتصادية الأساسية آنذاك. وبعد تفكّك الاتحاد، تقوّض هذا الوجود العسكري، إضافة إلى الفوائد الاقتصادية التي أتاحها، وفق "بي بي سي".

خلال الحقبة السوفياتية، كانت الزراعة صناعة أساسية، قبل تفكّك سوق المنتجات في كالينينجراد بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، ممّا تسبّب في انهيار الاقتصاد بالجيب في مطلع تسعينات القرن العشرين، وارتفاع معدلات البطالة وتفشي الفقر والجريمة المنظمة والمخدرات.

في محاولة لمعالجة مشكلات المنطقة، منحتها السلطات الروسية في عام 1996 وضعاً اقتصادياً خاصاً ومزايا ضريبية، تستهدف جذب المستثمرين. استفاد اقتصاد كالينينجراد بشكل كبير، وشهدت طفرة اعتُبرت سابقة، أدت إلى زيادة النموّ الاقتصادي والإنتاج الصناعي، بالتزامن مع تعزيز التبادل التجاري مع دول الاتحاد الأوروبي، بحسب "بي بي سي".

"العمق الاستراتيجي لروسيا"

وبات الجيب في السنوات الأخيرة، واحداً من مواقع شبكات التجارة التي تربط مدينة شيان في وسط الصين، عبر آسيا الوسطى وروسيا، بالسوق الأوروبية على ممرّ "الجسر الأرضي الأوراسي الجديد" لمبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينج. لكن ذلك جعل المنطقة أيضاً أكثر عرضة للخطر، في سياق حرب أوكرانيا والعقوبات الغربية المفروضة على روسيا، كما أفاد "ذي كونفرسيشن".

وأضاف أن الأهمية الأساسية لكالينينجراد بالنسبة إلى موسكو، تكمن في طابعها العسكري، باعتبارها "حاملة طائرات غير قابلة للغرق"، إذ تعزز بشكل كبير "العمق الاستراتيجي لروسيا"، وقد تقوّض قدرات "الناتو" في "المناورة عبر دول البلطيق وأجزاء من بولندا".

بعدما كانت تُسمّى كونيغسبرج، أعاد الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين تسميتها، في عام 1946، تكريماً لميخائيل كالينين، الذي كان رئيس اتحاد الجمهوريات السوفياتية، منذ عام 1919 حتى وفاته في عام 1946.

كانت المنطقة مختلطة جداً، تضمّ سكاناً من أصول ألمانية وبولندية وليتوانية ويهودية، قبل أن يطهّرها ستالين عرقياً من معظم سكانها الألمان، منفذاً حملة منهجية لإضفاء طابع روسي عليها، سعت إلى محو كل الإرث الألماني، وفق "ذي كونفرسيشن".

"منطقة عازلة طبيعية"

شهدت كالينينجراد، في عام 2010، احتجاجات ضد مرشحي الكرملين لمنصب الحاكم، فشنّت موسكو حملة على وسائل إعلام محلية والمجتمع المدني، كما أوردت مجلة "ذي إيكونوميست".

وأضافت أن روسيا تستخدم هذا الجيب غالباً لتهديد أوروبا. وتابعت أن السويد تخشى شنّ هجوم بحري من كالينينجراد على جزيرة جوتلاند في بحر البلطيق، كما أن "الناتو" يخشى أن تغزو روسيا بولندا وليتوانيا، لإقامة ممرّ بري بين الجيب وبيلاروس.

واعتبر جوناس كيلين، وهو محلل في "وكالة أبحاث الدفاع السويدية"، التابعة الحكومة، أن كالينينجراد تشكّل "منطقة عازلة طبيعية" تؤمّن خط الدفاع الأول لروسيا من الغرب، كما تضمّ أنظمة رادار تتيح مراقبة جوية لوسط أوروبا. وفي عام 2012، نشرت موسكو في الجيب نظام الدفاع الصاروخي "إس-400".

ولكن في حالة نشوب حرب، فإن موقع المنطقة بين بولندا وليتوانيا لا يترك سوى مجال ضئيل للمناورة بالنسبة إلى القوات الروسية، كما أن إعادة تزويدها بإمدادات ستكون صعبة.

ورجّح مايكل كوفمان، مدير برنامج الدراسات الروسية في "مركز التحليلات البحرية"، وهو معهد أبحاث أميركي، أن تكون كالينينجراد أكثر منطقة روسية تراقبها أجهزة الاستخبارات الغربية، علماً أن انضمام السويد وفنلندا إلى "الناتو"، سيجعل الجيب محاطاً بأعضاء الحلف.

وحذر كيلين من أن المنطقة يمكن أن تصبح "أقرب نقطة تفاعل" بين قوات "الناتو" وروسيا. وتابع: "إذا حصل حادث، فيُرجّح أن يكون في بحر البلطيق".

وصف معهد "ويلسون سنتر" الأميركي كالينينجراد، بأنها "شوكة روسيا في الخاصرة الأوروبية"، مشيراً إلى أن موسكو حريصة على إبراز صورة الجيب بوصفه "معقلاً عسكرياً ومنطقة عازلة ضد توسّع الناتو". واستدرك أن "التهديد الحقيقي الذي تشكّله كالينينجراد على الاستقرار الأوروبي، يتمثل في وضعها الهشّ وعلاقاتها الاقتصادية غير الواضحة مع الاتحاد الأوروبي".