أقالت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، كبير ضباطها في فيينا في أعقاب انتقادات تتعلق بسوء إدارته لملف أزمة "متلازمة هافانا"، ويشمل ذلك ما اعتبره البعض "استجابة غير كافية" لعدد كبير من حوادث صحية غامضة بالسفارة الأميركية هناك، حسبما ذكر مسؤولون أميركيون حاليون وسابقون لصحيفة "واشنطن بوست".

وقالت الصحيفة الأميركية في تقرير الجمعة، إن تنحية رئيس المكتب في واحد من أهم وأكبر مواقع "سي آي إيه" في العالم، من المتوقع أن يبعث برسالة مفادها أنه يتعين على كبار قادة الوكالة أن "يأخذوا على محمل الجد أي تقارير عن متلازمة هافانا".

و"متلازمة هافانا"، ظاهرة سُميت على اسم العاصمة الكوبية، حيث أبُلغ لأول مرة عن إصابة دبلوماسيين وضباط مخابرات أميركيين بأعراض غير عادية ومتنوعة، تتراوح بين الصداع، ومشكلات الرؤية، والدوار، وإصابات الدماغ، ابتداء من عام 2016.



"بؤرة" إصابات

وفي الأشهر الأخيرة، باتت العاصمة النمساوية "بؤرة" لما تطلق عليه "سي آي إيه" رسمياً "أعراض صحية غريبة".

وأفاد المسؤولون الحاليون والسابقون، الذين تحدثوا إلى "واشنطن بوست" بشرط عدم الكشف عن هوياتهم، أن عشرات الموظفين الأميركيين في فيينا، منهم دبلوماسيون ومسؤولون استخباراتيون، إضافة إلى بعض أبناء الموظفين الأميركيين "أبلغوا عن إصابتهم بالأعراض".

وتأتي الإطاحة برئيس مكتب "سي آي إيه" هناك في الوقت الذي تغادر فيه كبيرة مسؤولي وزارة الخارجية التي تشرف على حالات "متلازمة هافانا" منصبها بعد 6 أشهر. وقالت الوزارة إن السفيرة باميلا سبراتلين غادرت منصبها لأنها "بلغت الحد الأقصى لساعات العمل" المسموح بها بموجب وضعها كمتقاعدة.

رغم ذلك، كانت سبراتلين واجهت دعوات للاستقالة بعد مؤتمر عن بعد مع الضحايا الذين طرحوا سؤالاً بشأن دراسة مكتب التحقيقات الفيدرالي، التي حددت أن المرض يعود إلى أصول نفسية وليس جسدية، لكن سبراتلين رفضت التعبير عن رأيها بشأن مدى دقة هذه الدراسة، ما أثار غضب الضحايا الذين يعتقدون أن الأعراض التي أصابتهم نتجت عن "هجوم ربما باستخدام موجات دقيقة، أو أي شكل من أشكال الطاقة الموجهة".

وكانت شبكة "إن بي سي نيوز" أول من أشار إلى هذا الجدل، فيما رفض "إف بي آي" الإدلاء بتعليق لـ"واشنطن بوست" عن هذه الدراسة.

التشكيك في متلازمة هافانا

وقال المسؤولون الأميركيون إن رئيس مكتب "سي آي إيه" تعرض للنقد لأنه "لم يتخذ إجراءات أسرع" في مواجهة الأعراض التي تم الإبلاغ عنها في أوساط أفراد الاستخبارات.

ووصفه أشخاص مطلعون على أدائه بأنه "كان متشككاً في صدقية هذا المرض"، ومن ثم "لم يكن متعاطفاً مع معاناة الأفراد الذين كان يقودهم"، ولم تتمكن صحيفة "واشنطن بوست" من التواصل مع هذا القائد.

وأفادت الصحيفة أن عدد الحالات التي تم الإبلاغ عنها في فيينا يفوق نظيره في أي مدينة أخرى، باستثناء العاصمة الكوبية، هافانا.

وقال المسؤولون الحاليون والسابقون للصحيفة إن استجابة رئيس المكتب للمشكلات الصحية "لم تكن العامل الوحيد الذي أدى إلى إقالته"، لكن استدعاءه إلى الولايات المتحدة بعث بإشارة إلى المجتمع الاستخباراتي الأميركي حول "مدى جدية بيرنز في حماية أفراد أطقم العمل الأميركيين"، و"الوصول إلى أصل هذه الحوادث الصحية المبهمة".

وأضاف مسؤول أميركي أنه نتيجة للحوادث التي وقعت في فيينا، فقد شهد الشهر الماضي إغلاق بعض مكاتب البعثة الأميركية، ما عرقل سير العمل داخل السفارة.

وقالت "واشنطن بوست" إنه لم يتم الإبلاغ من قبل عن عزل رئيس المكتب، وإصابات الأطفال، وإغلاق بعض المكاتب داخل السفارة.

وبسؤاله عن تعطل العمل داخل السفارة الأميركية في فيينا، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية لـ"واشنطن بوست": "إننا لا نناقش العمل داخل السفارة، أو أية تقارير محددة، لكننا نأخذ كل تقرير نتلقاه على محمل الجد، ونعمل لضمان حصول الموظفين المصابين على الرعاية والدعم المطلوبين".

"هجمات" أم مرض نفسي

كان مدير "سي آي إيه"، ويليام بيرنز، وصف هذه الحوادث بأنها "هجمات"، ويشتبه بعض المسؤولين الأميركيين في أن هذه "الهجمات" يقوم بها عملاء روس، فيما عزاها مسؤولون حكوميون آخرون إلى "مرض نفسي يصيب الأفراد الذين يعملون في بيئات عالية الضغوط".

وعلى الرغم من مرور 4 سنوات من التحقيقات عبر إدارات متعددة، فإن الإدارة الأميركية لم تتمكن من تحديد السبب الحقيقي لهذه الحوادث.

وفي يوليو الماضي، بحسب "واشنطن بوست"، وضع بيرنز ضابط "سي آي إيه" سابق، كان لعب دوراً محوريا في تعقب أسامة بن لادن، على رأس فريق عمل للتحقيق في منشأ هذا المرض.

وبسؤاله عن فصل رئيس المكتب من عمله، رفض متحدث باسم "سي آي إيه" التعليق للصحيفة الأميركية على أي مسألة محددة تخص أطقم العاملين.

وقال المتحدث إن "المدير بيرنز وضع ضمان حصول الضباط على الرعاية التي يحتاجونها، والوصول إلى السبب الجذري لهذا المرض على رأس أولوياته"، مضيفاً أن بيرنز أجرى بعض "التغييرات في مكتب الخدمات الطبية من أول يوم تبوأ فيه منصبه قبل ستة أشهر، إذ تمت ترقية طبيب للتركيز على رعاية المرضى لقيادة جهودنا للعناية بالأفراد المصابين، كما ضاعف عدد أفراد الطاقم الطبي 3 مرات للتركيز على (الحوادث الصحية الغريبة)".

ويقود كبار ضباط "سي آي إيه"، ومكتب مدير الاستخبارات الوطنية أيضاً لجنة من الخبراء من الحكومة والقطاع الخاص للتحقيق في الأسباب المحتملة للحوادث.

تفاقم الإصابات

ومع زيادة الغموض الذي يكتنف هذه الهجمات، تفاقم عدد هذه الحوادث، وحدتها. ففي وقت سابق من هذا الشهر، أبلغ ضابط استخبارات كان رافق بيرنز في رحلته إلى الهند عن "إصابته بأعراض متلازمة هافانا، وحاجته إلى رعاية طبية"، وفقا لما قاله المسؤولون الحاليون والسابقون للصحيفة.

ورأى البعض هذه الحادثة، التي سبقت شبكة "سي إن إن" الجميع في النشر عنها، على أنها "رسالة لقيادات الوكالات الاستخباراتية تفيد بأنهم ليسوا بمنأى عن استهدافهم في أي مكان في العالم".

رغم ذلك، أشارت "واشنطن بوست" إلى أنه "ليس ثمة نمط واضح يكتنف هذه الحوادث الصحية"، حيث "تم الإفادة عن نحو 200 منها في جميع أنحاء العالم، وفي جميع القارات، باستثناء القارة القطبية الجنوبية، في السنوات الخمس الماضية".

وفي تصريحات علنية أدلي بها الأسبوع الماضي، قال ديفيد كوهين، نائب مدير "سي آي إيه"، إن وكالته تحاول "تحديد مصدر هذه الحوادث".

وأوضح: "فيما يتعلق بما إذا كنا قطعنا شوطا على هذا الطريق، أعتقد أن الإجابة هي "نعم"، قبل أن يستدرك: "لكن ليس بما يكفي لإصدار الحكم التحليلي الذي ينتظره الناس".

وكان موظفان أميركيان في هانوي أبلغا، الشهر الماضي، عن إصابتهما بأعراض قبيل وصول نائبة الرئيس، كامالا هاريس، ما أجل زيارتها للعاصمة الفيتنامية لساعات قليلة.

كما تمت الإفادة عن حالات أخرى في روسيا والصين وكولومبيا وأوزبكستان، إلى جانب الولايات المتحدة.

تشريع للعلاج

وهذا الأسبوع، صادق مجلس النواب بالإجماع على تشريع لتوفير تمويل علاج الأفراد الذين ربما أصيبوا بمتلازمة هافانا، ومساعدتهم. وكان مجلس الشيوخ أقر مشروع القانون في يونيو، وهو الآن في طريقه للحصول على مصادقة الرئيس بايدن.

واعتبر مارك بوليميروبولوس، ضابط "سي آي إيه" السابق الذي تقاعد عن العمل في الوقت الذي كان يعاني فيه من أعراض "متلازمة هافانا"، بما في ذلك نوبات الصداع الحاد، في أعقاب انتهاء رحلته إلى موسكو في 2017، أن تمرير هذا التشريع "لحظة فاصلة للضحايا".

وقال لصحيفة "واشنطن بوست" إن التشريع يمثل "اعترافاً جوهرياً من حكومة الولايات المتحدة بأن الهجمات المستمرة حتى يومنا هذا، حقيقية".

لكن إدارة بايدن ما زالت "لا تمتلك سوى خيارات قليلة واضحة بشأن كيفية استجابتها للأحداث"، بحسب الصحيفة.

وتوقع بعض المسؤولين أن دولا عديدة ربما تستخدم "أسلحة الطاقة" ضد الموظفين الأميركيين، مؤكدين أن التركيز على روسيا وحدها "يضيق دائرة البحث أكثر مما ينبغي"، فيما أشار آخرون إلى أنه "لا يتوافر لدينا ما يكفي من الأدلة لربط استخدام أسلحة الطاقة بالأعراض التي تم الإفادة عنها من قبل البعض".