محمد رشاد
أتتبع أثر والدي الدكتور محمد جابر الأنصاري لأسير على خطاه، أتمعن فيما قدم من إنتاج فكري وثقافي، وأحمل مسؤولية إحياء ذكره إلى آخر يوم في عمري، أبحث دائماً عنه في عيون الذين عاصروا أعماله، اكتسبت منه شغف الكتابة الصحفية ومعنى الإخلاص للوطن قولاً وفعلاً.

أهوى تقليد والدي، في كل ما حملته شخصيته من سمات وتفاصيل وفي كل ما أهتم به، فمن خلاله تعرفت على أهمية التفكير الحر والفعل المسؤول، فهو ملهمي وقدوتي ومثلي الأعلى.

المقارنة بالأنصاري تستحيل وإن كانت مع ابنته التي تحمل نفس دمه وجيناته، فهو القامة في مجاله، والعالم والفيلسوف في إطروحاته، التي سبقت وقته وزمانه، أما أنا فمجرد «هاوية» أنهلُ من بحر علومه، وسأحمل على كتفي مسؤولية إحياء ذكره حتى آخر نفس لي.

بهذه الكلمات، سردت العضو المؤسس لدارة الأنصاري للفكر والثقافة، والأمين العام للمجلس الأعلى للمرأة هالة الأنصاري لـ«الوطن» ضمن سلسلة «سيرة ومسيرة»، تفاصيل علاقتها بوالدها الدكتور الأنصاري الذي يعد أحد كبار رواد الفكر والسياسة في الوطن العربي. وإليكم نص الحوار:

في البداية نريد التعرف على ذكرياتك العلمية والعملية؟

- ذكرياتي تعود دائماً لمحطات تنقل الوالد في رحلته خارج البحرين بين بيروت ولندن والدوحة وباريس التي قرر – في مرحلة مفصلية من حياته العملية - أن تكون بمثابة رحلة تأمل وتفكير وبحث عميق، لإنتاج معرفي – فلسفي يشخّص ويعالج البنية الذهنية والبنية المجتمعية للواقع العربي.

وكانت الرحلة، هي مدرستي، بما شهدته وسمعته واكتسبته من والدي ووالدتي، على حد سواء، فوالدي فتح لنا أفق التفكير الحر، وتقدير قيمة الأشياء، واعتناق خلق التواضع وسماحة النفس، ودربنا على النقد المسؤول وأصول البحث عن الحقيقة، وإن طال الزمن، والتعامل بشجاعة مع عواقب القرارات.

أما من والدتي التي دعمت والدي بكل ما تملك من طاقة ليسطع نجمه كمفكر أبدع في عطائه، فقد اكتسبت منها مهارة وقيمة الالتزام في كل شيء، والاعتماد على الذات، والتحلي بعادات أهل البحرين و «سنعهم»، والتذكير الدائم بكد وتعب وكدح الآباء والقناعة بالرزق، فهي تكرر، على مسامعنا، مقولة عزيزة على قلبها: «قل ما أملكه قل ما يملكني..زاد ما أملكه زاد ما يملكني»، ولم أفهم مغزى ذلك إلا مع دخول معترك الحياة.

أما بالنسبة لسيرتي العلمية، فبدأت في بيروت لنتركها مع بدء الحرب الأهلية اللبنانية، ثم في مدارس الدوحة التي انتقل لها الوالد بطلب رسمي لتأسيس مجلة «الدوحة» وعمل خلال تلك الفترة على إنهاء رسالة الدكتوراه التي أخرتها الحرب، وصولاً للمدرسة العراقية في باريس التي انتهت الإقامة فيها عام 1982 مع إنهاء والدي لعدد من المشاريع التي انشغل بها خلال تلك المحطة، كالكتابة بمجلة الصياد وجريدة الأنوار اللبنانية الصادرتين من باريس، والمشاركة في تأسيس معهد العالم العربي بالعاصمة الفرنسية، والدراسة بجامعة السوربون لإتقان اللغة الفرنسية قراءة وكتابة وترجمة.

ومن كل محطة تزودت بما يلزم لصهر معارفي وتشكيل قناعاتي حتى تخرجي من مدرسة خولة الثانوية للبنات «تخصص علمي» ومن ثم جامعة البحرين «علوم حاسوب/وإدارة أعمال»، لأختم دراستي الأكاديمية في كاليفورنيا بشهادة الماجستير وذلك في عام 1994، حيث كنت برفقة زوجي وسندي الدكتور وحيد القاسم، الذي كان بدوره يدرس الماجستير بالكلية العسكرية البحرية، وحرص على أن تتاح لي ذات الفرصة، على الرغم من صعوبة ظروفنا العائلية، حيث رزقنا في تلك الرحلة بابننا البكر محمد الذي يمتهن اليوم مهنة المحاماة ولديه مكتبه الخاص، ويشجع أخواته راوية ودلال بالعمل معه.

ولم يكن الأمر سهلاً عندما جاءت مرحلة اختيار المهنة، حيث بدأت بالعمل في شركة بتلكو وتدرجت خلالها في عدد من الوظائف، كان آخرها مدير إدارة اتصالات الموظفين بشركة البحرين للاتصالات «بتلكو» التي تركتها في أوائل العام 2000، لأبدأ بعد ذلك بالكتابة بشكل متقطع في جريدة الأيام وكانت تجربة مفيدة اختبرت فيها ميولي للكتابة الصحفية.

وانتقلت بعدها، في أكتوبر من العام ذاته، للعمل بمكتب صاحبة السمو الملكي الأميرة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة قرينة عاهل البلاد المفدى، حفظها الله، وهي فرصة تشرفت بها، ولاأزال، حيث كُلّفت بمتابعة الشؤون الإعلامية الخاصة بمكتب سموها، وأضيف لمهامي مسؤولية التنسيق للبدء بمشروع المجلس الأعلى للمرأة تمهيداً لوضع مسودة عمله من قبل المختصين والخبراء في المجال، ومع ما اكتسبناه من خبرة وعملنا عليه خلال 22 عاماً الماضية، كانت موجهتنا الأولى وصاحبة الفضل الأكبر في كل ذلك، من بعد الله، صاحبة السمو الملكي، أم البحرين، وأم «سلمان» أطال الله في عمرها، فمنها تعلمت وأتعلم – إلى اليوم – الكثير والجديد والأصيل، ولها أقول، لن ننسى فضلكم ودمتم عزاً وسنداً لكل نساء الوطن.

ماذا يمثل المفكر الكبير الدكتور محمد الأنصاري بالنسبة لهالة الأنصاري، وماذا أخذت من والدها؟

- أبي هو نبع حياتي وأنهل من سيرته واستمد من إرثه ما أحتاج للصمود في ميادين العمل والحياة، وأجد صعوبة كبيرة عندما يُطلب مني الحديث عن ما أخذت هالة من والدها؟ فهالة وما حققته هالة لا يقارن بوالدها على صعيد ما يتميز به كقامة في مجاله، بل لا أتجرأ على عقد مثل هذه المقارنة.

ولكن على المستوى الإنساني، فإني أواظب على تقليده في كل ما حملته شخصيته من سمات أعتز بها على صعيد ما آمن به من قيم، وما اعتمد لنفسه من مبادئ وأخلاقيات، فكلينا يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار ونعتبر أنفسنا جنوداً مجاهدين في خدمة الوطن، فهو من علمني المعنى الحقيقي للإخلاص للبحرين، التي لا مساومة على الولاء لها مهما اختلفنا في الرأي، ومهما كانت تصوراتنا للإصلاح والتجديد.

ولكني قد لا أتفق مع الوالد في أمر واحد، فهو ابتعد عن العمل الإداري الذي وجد فيه تقييد لإبداعاته وتقليص لحريته الفكرية، في حين أعتبر إتقان العمل الإداري سراً من أسرار التجديد والتطوير الميداني، ومساحة خصبة للابتكار والإبداع، ووقوداً لشحن حماسي لتقديم المزيد والجديد، ولكن يبقى والدي مثلي الأعلى في كل شيء وسأحمل على كتفي مسؤولية إحياء ذكره حتى آخر نفس لي.

تحدثتِ بأنك ستحملين على كتفك مسؤولية إحياء ذكر الدكتور الأنصاري حتى آخر العمر، ماذا تعنون بذلك؟

- أعني ما تعنيه من التزام وعمل جاد ودين نؤديه لأب قد لا نكون وفيناه حقه كما يجب، بالحفاظ على إنتاجه المتمثل في مشروعه الفكري الشامل الذي اهتم بصلاح حال الأمة العربية، وتوجه بفكره، مشخصاً ومحللاً، ليسهم، مع مفكري الأمة، في تقديم معالجات جادة وتفسيرات واقعية من أجل نهوض حضاري وثقافي ومعرفي عربي يزيح عن الذاكرة فترات التراجع والانهزام المحبطة للذات العربية.

وهذا الشجن هو ما جاء بفكرة دارة «الأنصاري» للفكر والثقافة التي تأسست في أغسطس 2019، ورسالتها، تخليد اسم الوالد والمحافظة على إرثه الفكري وإنتاجه الأدبي والثقافي وسيرته العلمية والتعريف به للأجيال المتعاقبة، وإبراز عطائه كعلم من أعلام البحرين ومن رواد الحركة الفكرية والثقافية التي سجلت لنفسها محطة مضيئة في تاريخ البحرين المعاصر.

أشرتم في لقاءات سابقة إلى أن دارة الأنصاري ستكون منصة ثقافية ذات ترتيب مؤسسي؟ ماذا تعنون بذلك؟

- الترتيب المؤسسي هو ما بدأناه فعلياً وبتدرج منذ العام 2019، عندما احتفلت البحرين بثمانينية الأنصاري في حفل استمد أهميته - إلى جانب مضمونه - من الرعاية الملكية السامية التي نعتبرها رسالة واضحة لمكانته الوطنية، وتقدير البلاد لدوره وعطائه، حيث أعلنا في ذلك الحفل عن إنشاء «الدارة» كتنظيم مؤسسي يعتني بإنتاجه وينشر أفكاره.

وكان توقيت هذا القرار صعباً جداً بالنسبة لنا – كعائلة – لتزامنه مع مرضه، عافاه الله، ولكنها مسؤولية لا بد لنا من تحملها والعمل عليها دون تأجيل. وتعتبر الفكرة تحقيقاً لحلمه، بأن تكون أعماله متاحة، بدون قيد أو شرط، للباحثين والأكاديميين وجمهور الشباب الجامعي، وهم الجمهور الأقرب إلى قلبه طوال حياته، والمهنة التي لم يتخلَ عنها خلال فترة عطائه.

لا شك أن دارة الأنصاري بما تحمله من فكر أدبي وثقافي لها رمزيتها من جانب قراء العالم العربي بإبداعات المفكر الأنصاري، هل أنتم مستعدون لذلك؟

- المهمة ليست سهلة إطلاقاً، فسمعة الوالد الفكرية تمتد إلى كافة أرجاء الوطن العربي واستطاع من خلال أعماله المتعددة والمتنوعة أن ينفذ بإطروحاته وآرائه لمعاقل أكبر الأدباء والمفكرين، وهذا بحد ذاته تحدٍ كبير ومسؤولية بحمل ثقيل.

وسنجتهد، ما استطعنا، لإحياء مخزونه الفكري الذي لم يتسنَ، له بحكم انشغالاته الكثيرة، أن يوفر له المنصات المناسبة التي تمكنّه من التعريف به كما تستحق أعماله، وعلينا كما تفضلت أن نكون على أتم الاستعداد لذلك.

ولهذا الهدف تحديداً، قامت والدتي بتخصيص مقر للدارة في منطقة المنامة بأم الحصم، وفي ذات الموقع سكن الدكتور الأنصاري منذ عودته من رحلته الفكرية بعيداً عن الوطن، حيث نعمل حالياً على تجهيزها ونأمل أن تفتح أبوابها في نهاية العام الحالي، وستشمل على قسمين، الأول: سيكون بمثابة مكتبة لعرض حوالي 5 آلاف كتاب وهي مجموعة الوالد على مر السنين، ومتحف صغير لعرض بعض مقتنياته وأهم محطاته وذكرياته، أما القسم الآخر سنخصصه لفعاليات ونشاطات الدارة.

وأود بهذه المناسبة، أن أعرب عن مدى شكرنا كعائلة وتقديرنا الخالص لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، على ما تحظى به الدارة من دعم واهتمام نعتز به أشد الاعتزاز.

ما الذي يمكن أن تقدمه دارة الأنصاري للحركة الثقافية والأدبية في البحرين؟ وهل لنا أن نتعرف على مقتنياتها من خلال أخذ القارئ الكريم في جولة داخل الدارة؟

- الدارة ستكون، دون شك، إضافة للنشاط الثقافي والأدبي، وعليها، فيما هو قادم، أن تتفاعل مع المؤسسات المماثلة في الدولة وأن تكون أداة مؤثرة للتعريف بما لدى البحرين من ثراء ومخزون ثقافي.

فأساس عمل الدارة يركز على التفاعل مع المهتمين والمختصين وتشجيعهم على الاستفادة من مؤلفات الوالد بالبناء عليها وإثرائها، لتواصل الدارة عبر إنتاجه الغزير بالإسهام في التأسيس المعرفي السليم لقضايا الواقع العربي ودور العلوم الإنسانية في النهوض الحضاري.

وأرشيف الوالد الفكري، أرشيف ضخم ونتمنى أن نبرم اتفاقات قادمة تعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تلك الذاكرة الفكرية والثقافية التي كونتها كتاباته وتحليلاته وتدويناته، والتي من الممكن اعتبارها تسجيلاً فخماً للواقع الفكري للحقبة التي اهتم بها وعاصرها، وسنبحث في الفترة القادمة، سبل إبراز المهم من تاريخ البحرين الأدبي الذي جاء بقلمه، وسنعمل على طباعة ونشر مؤلفاته التي لازالت قيد الحفظ، هذا غير دراساته وبحوثه ومقالاته وندواته ومحاضراته ورسائله مع المثقفين والمفكرين التي يجب العمل على توثيقها وأرشفتها.

وباختصار، سيكون للدارة برنامج عمل دوري عبر المشاركة في المواسم الثقافية والأدبية، وتنظيم الندوات، والنشر في المجلات والصحف المتخصصة، وتجميع أعمال الأنصاري وإعادة طباعة مؤلفاته، والمساهمة في احتضان المواهب الأدبية الناشئة عن طريق البعثات أو الجوائز أو دعم البحوث العلمية، ولدينا مشروع نعمل على دراسته لتحويل الدارة إلى منصة ثقافية «افتراضية» في المستقبل القريب، وستضم المنصة أرشيف خاص للمكتبة.

دارة الأنصاري مَعْلَم بحريني جديد على الطريق الثقافي العربي والعالمي، فماذا تحمل من أمهات الكتب لأحد أبرز الأدباء في الوطن العربي الدكتور محمد الأنصاري؟

- كما أوضحت لكم بداية، مجموعة الوالد من الكتب تبلغ تقريباً 5 آلاف كتاب ومؤلف لأهم المؤلفين والكتّاب من أنحاء الوطن العربي والعالم الذين اهتموا بالمنطقة وتاريخها، وهي قائمة طويلة جداً، الحقيقة، وسنؤجل الحديث عنها مع قرب افتتاحها.