هو ليس ساحراً على طريقة الساحرات الألمانيات في القرن السادس عشر، واللواتي قُتل منهن حرقاً ما يقارب المئة ألف في قرن واحد، بسبب سيطرتهن على المجتمع الألماني في كل شاردة وواردة، وفقا لما أورده المفكر الشهير برتراند راسل في "العلم والدين".. بل هو رحّالة يهودي وكاتب ومؤرخ وضابط سابق في الجيش الفرنسي اسمه ليون كاهون.دخل إلى جبال العلويين منذ ما يقارب الـ137 عاماً، بعد أن زار مصر وتحديدا أرض النوبة، ليكتشف "اختلاف النوبيين" عن أبناء جلدتهم المصريين، وفعل الأمر ذاته مع بلاد ما بين النهرين، فكتب عن قوميات تلك الأرض.وقد تركت زيارته جبال العلويين التي دخلها تحديدا عام 1878 ميلادية، أثرا حاسماً في دخول بلاده إلى تلك المناطق، بصفتها "محررة" هؤلاء الأشخاص الذين أقنعهم باختلافهم الوراثي وبتميّزهم عن سواهم، عرباً كانوا أو أتراكاً.وعلى الرغم من أن ليون كاهون ليس هو أول "مستشرق" فرنسي يزور جبال العلويين، حيث سبقه ابن جلدته الملازم "والبول" في عام 1851، كما زار تلك الجبال غيره من المستشرقين الفرنسيين من أمثال "ماسينيون" الذي كان أكثر تركيزاً على الطبيعة العقائدية المذهبية لأهل تلك الجبال، فالتقى زعيم الطائفة العلوية وقتذاك الشيخ سليمان الأحمد، والد الشاعر المعروف بدوي الجبل، إلا أن زيارة كاهون اكتسبت مدلولات على درجة كبيرة من الأهمية لأنها زيارة محددة الأهداف والمضامين، كما ذكر الدكتور سهيل ذكار الذي قال إن زيارة كاهون تمت بطلب من السلطات العسكرية الفرنسية في ذلك الوقت.اختار ليون كاهون الجزء الشمالي من جبال اللاذقية والقرداحة مقراً رئيسياً. ولم يُعرف السبب وراء اختياره هذا الجزء دوناً عن الأجزاء الأخرى، خصوصا أن "الكتلة العلوية" المؤثرة تنتشر على الجزء الجنوبي لتلك الجبال، أي مناطق ريف جبلة وسهلها الساحلي الواسع. ولم يتبين سبب اقتصار الزيارة على الجزء الشمالي، إلا أن ترجيحات رأت السبب بكون شمال اللاذقية أقرب إلى الميناء وأكثر أمناً للرحّالة، كما أنه يتّصف بضعف المؤثرات العائلية التي يتجمع أغلبها في الجزء الجنوبي من تلك الجبال، مخافة أن يصطدم بقوة الزعامات فتعيق عمله الذي كان يتطلب تصوير الأشخاص وأخذ مقاسات أبدانهم وأشكال جماجمهم، نساء ورجالاً، الأمر الذي لن يكون متوفراً بسهولة في الجزء الجنوبي الذي تسيطر عليهم زعامات عميقة الجذور لن تسمح بحال من الأحوال لـ"غريب أجنبي" أن يمد ذراع الشخص ليقيسه بالسنتيمتر، أو ليلف المقياس على جمجمته لضبط حجمها الذي سيحولها إلى ميزة تفصلها عن سواها من جماجم.بدليل أن ليون هاجم بشدة شيخاً علويا ووصفه "بالمكر والتعصب" وبأنه "جاسوس تركي" لأنه فقط "حاول جاهداً منع العلويين من أن يسمحوا لي بالتقاط الصور الفوتوغرافية لهم أو أن يسمحوا لي بأخذ مقاسات أجسامهم".من هنا كان آخر خط للزيارة، هو منطقة القرداحة التي تركزت فيها إقامته، التي لم يتجاوزها باتجاه "جبلة" بل قفل عائداً إلى مدينة اللاذقية، ثم ركب البحر ليخبر بلاده التي أرسلته في مهمة رسمية أن العلويين يريدون فرنسا أن تدخل جبالهم وتخلصهم من المحتل التركي!المقاسات والأحجام والعظام والجماجمقام ليون كاهون، بكل ما يمتلكه من أدوات علمية وبحثية، ليثبت اختلاف العلويين عن سواهم على المستوى الوراثي، وكان جل وقته ما بين الجبال والقرى يقضيه في أخذ مقاساتهم حتى في ليالي السمر والسهر: "في الأماسي، كنا ننشغل تماماً بأخذ مقاسات أجساد الرجال". وبسبب ظلمة الليل التي كان تؤثر في رؤيته البصرية لخصوصية أجساد العلويين فكان يضطر لأن "يتلمّس النتوء العظمي لأسفل عظم الكتف".ويذكر ليون كاهون في كتابه "رحلة إلى بلاد العلويين" عام 1878 أنه بعدما تفحص وقايس عددا كبيرا من أجساد العلويين استطاع أن يعثر على "كنز" سمّاه "المارد" بعدما تبين له أن هذا المارد "يبلغ من الطول متراً وثمانية وتسعين سنتيمتراً واسمه حسان الأغيس". وأن هذا المارد، بعدما أخضعه لفحوص القوة البدنية، التي ستشي بفرادة جنسه، تبين أنه كان الأقوى دون منازع، فلقد "أوصل إبرة الضغط إلى الدرجة 90" بعدما كان أقوى الرجال "يوصلها إلى 55 أو 60 درجة فقط".في الواقع، يتضح أن المهمة التي جاء لأجلها كاهون إلى جبال العلويين كانت تتطلب إثبات اختلاف جيني وراثي، ليتم الانتقال إلى أنهم "مختلفون" عن أبناء بلدهم الآخرين، هذا الاختلاف الذي ابتدأ به أصلا في كتابه عندما صنّف أبناء تلك الجبال بأنهم "تجمّع بشري يتميز منذ النظرة الأولى، عن كل التجمعات الأخرى المحيطة به".بل إنه لا يخشى من أن تكون بعض النسوة في تلك القرى النائية، وخصوصا منهن "التي تظهر ببشرتها الوردية وبشعرها الأشقر المتوهج، وعينيها الواسعتين شديدتي الزرقة"، قد رأى مثيلا لهن في "النواحي المحيطة بسان كلود" الفرنسية، ولرجال هؤلاء النسوة "مظهر أبيٌّ متعالٍ"...هذا فضلا عن أنه رأى امرأتين علويتين "تظهران الكثير من الحرية السامية" إلى درجة أنه لا يستطيع أن يطلق "هذه الصفة على النساء من المذاهب الأخرى، ولا حتى المسيحيات في لبنان"...ويبدو أن مهمته كانت عاجلة إلى الدرجة التي اضطر فيها أن يصطحب بعضا من جماجم العلويين إلى دياره في فرنسا، لمقارنتها بسواها من جماجم الجنس البشري، والأوروبي منه تحديداً، ليصل إلى نتيجة حسمها بقوله: "وقد لاحظت أن جماجم العلويين تتقارب إلى حد بعيد مع الجماجم الألبانية"، وأنهم، كطائفة وقومية، في آن واحد، "أحفاد الجنس الذي ساد وعمّ المنطقة ومقدونيا واليونان" وأن "الآثار المصرية" أشارت "إلى هذا الجنس" الذي "يمثله العلويون الآن".وربما لهذا السبب اندفع بحماسة كشفت أهداف زيارته العاجلة إلى تلك الجبال ليقول، معززا الاختلاف والانفصال والتباين الوراثي والقيمي، بأنه "ما من شعب يستحق الفائدة والخير أكثر من هذا الشعب الشريف والقوي والذي بقليل من الدعم الأوروبي فإنه بكل تأكيد سيعلم الشعوب التي تحيط به كيف تحترم نفسها".الجيش الروسي يدخل الأرض التي اكتشفها كاهونووصل الأمر إلى أن تقوم الحكومة التركية في ذلك الزمان البعيد، بتعيين جواسيس على تحركاته في المنطقة، بعدما أحست بالقلق مما يفعله وهو يأخذ مقاسات الأجساد وأطوالها وتمايزها العظمي، فاتهمته السلطات التركية بأنه كان يقوم "بوشم العلويين" لتكون هناك إشارة "يتعرفون من خلالها على بعضهم بعضاً".فترك "القرداحة" والتي هي مسقط رأس آل الأسد الآن، وقفل عائدا إلى بلاده، بعدما أوصلهم إلى قناعة نهائية بأنهم يريدون فرنسا أن تحتل أرضهم، في مقابل أن يقوموا هم بطرد الحكومة التركية من الساحل: "العبارة التي يرددها الجميع هنا، متى سيأتي الفرنسيون؟ فليقدموا لنا الإدارة والمدارس. إذا أرادت فرنسا حمايتنا فسنتكفل بطرد الحكومة التركية من طرابلس إلى اللاذقية".وهذا ما حصل في فترة لاحقة، وتأسيس ما عُرف بـ"المجلس التمثيلي لحكومة اللاذقية" والتي ضمت كل الزعامات العائلية التي سبق وزارها كاهون في القرداحة، تحديدا منهم آل العثمان وآل مهنا، مضافاً إليها زعماء مما يسميه هو "علويو الجنوب" أي ريف جبلة ومدنها.. حيث كان هذا المجلس التمثيلي هو المؤسسة الرسمية لما عُرف بـ"دولة العلويين" في ما بعد.وبدخول الروس عسكريا الآن على نفس المنطقة، وبنفس القرى والبلدات التي مسحها كاهون وقدم معطياتها لبلاده فدخلتها محتلة وأقامت فيها "حكومات مستقلة في المدن السورية الرئيسية كحلب ودمشق واللاذقية وجبل العرب" موالية لها، يكون الروس الآن، الورثة الشرعيين للخطاب العنصري الذي أسسه كاهون، إنما بفارق أساسي، أن كاهون عمل على "العصبية الوراثية" وأقنع أهل تلك الجبال بخصوصيتهم وتميزهم وتفوقهم، فجاءت فرنسا "لحماية تلك الخصوصية".أمّا الروس، فهم دخلوا عسكريا إلى اللاذقية، لا لأسباب "العصبية الوراثية" بل "للقضاء على داعش" الأخير الذي يمثل "قيم الخرب والشر والدمار" في مقابل نظام سوري يمثل "الشرعية والدولة"، حسب الروس.. من هنا فإن الروس دخلوا "لحماية الدولة، لا النظام".أي استبدال عصبية كاهون الوراثية، بعصبية أخرى. لكن، في الحالتين، الساحل السوري تحت الوصاية العسكرية الآن وللمرة الثانية: في الأولى انفصلت اللاذقية عن باقي الوطن، وفي الثانية، قد يكون ما هو أعظم..