رائد البصري


يقول أحد أصدقائي، عندما ترقيت إلى منصب مدير، كان من ضمن الموظفين بقسمي شاب نشيط جداً وناجح في عمله، وكان يقوم بكل ما يطلب منه بذكاء وسرعة ودقة، كما أنه يحقق نسبة إنجاز عالية لكنه كان لعوباً إلى حد ما، كان يغادر مقر عمله كثيراً بدون إذن، إجازاته واستئذاناته أكثر من المعتاد، ذات مرة تقدم الشاب بإجازة ليسافر مع أصدقائه في رحلة لكنني رفضتها فما كان منه إلا إن تقدم بإجازة مرضية واتصل مدعياً المرض معتذراً عن عدم الحضور، ولأنني أعرف أنه ليس مريضاً ذهبت صباحاً إلى بيته وانتظرت هذا الشاب باكراً ثم قابلته وهو يحمل عدة الراحلة، حيث كاد الموظف أن يذوب خجلاً ووجهه يتقلب بين الخجل والحرج، بينت له أنه لم يكن قادراً على خداعي وأنني لست بتلك السذاجة التي يظنها وبرهنت له أنه كاذب، وخصمت منه أجر يوم مضاعف.

وبعد أيام تقدم الشاب باستقالته من العمل وكانت نتيجة سيئة بالنسبة لي، فمن جهتي خسرت جهده ونسبة الإنجاز السابقة وصرت بحاجة للبحث عن شاب يمكنه أن يحقق ذات الإنجازات العالية التي كان يحققها.

لم يعد بالإمكان أن أرفع لإدارتي العليا نسب الإنجاز السابقة وصرت بحاجة للبحث عن شاب يمكنه سد الفراغ أو إتقان العمل لكي يحقق الإنجاز.

فسألت نفسي، ما الذي استفدته من ذلك يومها؟! واكتشفت أن بعض ما نخسره في حياتنا قد يكون بسبب التضييق على الآخرين وإغلاق منافذ الهروب، وهذا الأمر يجعل الطرف الآخر أمام خيارين، إما أن يهرب منك وتخسر جهده، أو يتخذك عدواً فيكيد لك ويدعو عليك، وفي كلتا الحالتين تكون خاسراً، لذلك أجد من المناسب أن تختار اللحظة لتسمح للطرف الآخر أن يتراجع، أن يهرب بكرامة، فبعض التغافل مفيد جداً.

لن تكون منتصراً فعلياً فيما لو كشفت المرء أمامك وأمام نفسه حد التعرية، حيث لن يجد بداً من المواجهة والهروب.

التجمل والتغافل هو ورقة التوت التي تسترنا وتحمينا في كثير من الأحيان، ليس الغافل بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغافل، الأفضل أن تفتح لمخك طريقاً يخرج منه كريماً فيحترمك بدل أن تحرجه فيعاديك.

لا تشترط أن تفوز بكل المعارك فبعض الفوز هزيمة، ولا تحرق مركبك أبداً فقد تحتاجه يوماً ما، لابد أن تكسب الجميع بنوع من التغافل الذكي والتجاوز، وذلك ليس غباء بل هو منتهى الذكاء والفطنة.