تعود في هذه الأيام، ذكريات الكتّاب والمؤرخين السياسيين، الى شخصية لاتعتبر وحسب من أهم شخصيات التاريخ الروسي القيصري، بل يعدها البعض من أهم شخصيات العالم. وهو الراهب المثير للجدل، راسبوتين، والذي عرفه العالم في السينما، والأدب، كما عرفه في تاريخ آخر عائلة قيصرية حكمت روسيا.ففي الصحافة العربية، يتم التذكير بالفنان يوسف وهبي في مسرحية "راسبوتين" التي أدّاها الفنان الكبير، في ذلك العمل الذي يعود الى أول ستينيات القرن الماضي. إلا أن أحداث المنطقة، وأبرزها تدخل الجيش الروسي في الأزمة الروسية، لإنقاذ بشار الأسد، أدى لإعادة تسليط الضوء عليها، على خلفية ذلك التدخل أو بداية مؤشراته.وكذلك استخدم بعض الكتاب، مزاوجةً مابين اسم "راسبوتين" واسم الرئيس الروسي، من وجهة نظرهم، طبعاً، للتحدث عن الفارق مابين الراهب الموصوف بأعنف الصفات، إلا أنه نصح قيصره بعدم الدخول في حرب ضد السلطنة العثمانية.مقارنة بين "راسبوتين" والبغداديوعقدت في الصحافة المصرية، أمس السبت، مقارنات لحركات متشابهة مابين عدة أشخاص، يجمع مابينهم حركات لليد تشي، حسب مؤلفها، بروابط دلالية، وسواها. فأجريت مقارنة مابين حركة يد "راسبوتين" الرهيب، وحركة يد أبي بكر البغداي، زعيم "داعش".وانتهت المقارنة التي أجرتها دراسة في "اليوم السابع" المصرية، الى أنه يجب اعادة قراءة كثير من صور الشخصيات، وفق "مداخل غير تقليدية" وبخاصة "الصور التي شهدت رواجاً" ضخماً، كصورة راسبوتين، وغيره.بوتين يمنح الجنسية لبطل "راسبوتين"وسبق أن قرر الرئيس فلاديمير بوتين، منح جنسية بلاده، للممثل العالمي جيرارد ديبارديو، لأنه، بوصف بوتين، قدّم خدمة كبيرة للثقافة الروسية. وديبارديو بطل فيلم "راسبوتين" الذي هاجمه النقاد. وقال الفنان الفرنسي الذي مدح الروس كثيرا "ليتهرب من الضرائب" عبر طلبه الجنسية الروسية، إن الرئيس الروسي اطّلع على نص الفيلم قبل تنفيذه.نصيحة المجنون الماجن.. لم تصل أسماع البعض!التدخل العسكري الروسي، في سوريا، استدعى النبش في أوراق الماضي، لرؤية مفارقة وصفت بالعجيبة، عندما يكون لرجل له سمعة "راسبوتين" أن يتمتع بـ"حكمة" المجانين التي طالب المثل العربي القديم بأخذها من أفواههم.وسبب عودة تلك الذكريات السياسية، هي في النصيحة التي أسداها راسبوتين للقيصر نيقولا الثاني، كيلا يدخل الحرب ضد العثمانيين في البلقان. حيث تذكر المصادر أن "راسبوتين" ظل يضغط على القيصر لثنيه عن اتخاذ قرار الدخول في حرب ضد مسلمي البلقان بزعامة الدولة العثمانية، وقتذاك.موقف "راسبوتين" من رفض تدخل بلاده في حرب ضد المسلمين، أدى لخروج اثنين من أنصاره، عليه. خصوصا أن شهرته ونفوذه بلغا حداً زرع الحقد والغيظ في قلبهما. فاستغلا موقفه الرافض لحرب الروس في البلقان، ودشّنا حملة كبيرة ضده، وصلت حد الطلب من المجمع الكنسي أن يطرد راسبوتين من صفوفه، وكذلك فعلا مع الكنيسة الأرثوذكسية لدفعها لطرده. وفشلا في ذلك. فراسبوتين، كان أقوى وأكثر نفوذا مما كانا يظنّانه.عدم استجابة السلطات القيصرية والكنسية، لتحريضهما ضده - علماً أنهما وصفاه بأنه تجسيد للشيطان!- دفعهما بلحظة غضب الى التعامل بعنف شديد معه. فتم اتهامهما بتدبير محاولة قتله من طريق سيدة مصابة ببعض الأمراض الخطيرة، واستطاع راسبوتين أن يقاوم طعناتها ويرد لها الضربة.لكن على الرغم من صورة هذا الكاهن "الأسطوري" والسكّير العربيد الذي كان يترنح حتى في بهو السكن القيصري، والذي ادعى مقدرة على شفاء الأمراض المستعصية، وتحوله الى "ملهم" فذ لكثير من أعمال السينما والفن التشكيلي، وعرف ماعرف عنه من سيطرة على الحكم القيصري الروسي، ومارافق ذلك من شائعات، طالت عائلة آخر قيصر لتلك البلاد، إلا أنه اتّسم، وللمفاجأة، بقدر كبير من الحكمة السياسية.فقد كان من معارضي التدخل الروسي في البلقان، وتحت أي "مبرر" كانت تقدمه الكنيسة الروسية الارثوذكسية.ووصل الأمر الى حد اتهامه بـ"التآمر" مع دولة أجنبية لترتيب صفقة اتفاقيات معها، لثني بلاده علن الدخول في حرب البلقان ضد السلطنة العثمانية.أمّا شائعة دور المخابرات البريطانية في قتله، لأنه يسعى لتأمين اتفاقية سلام مع الألمان، فلا مصداقية لها. إذ عُرف أسماء المتآمرين على قتله، والذيم نفذوا العملية، وكان واحد منهم من العائلة القيصرية، ومتزوج من أسرة "رومانوف" القيصرية الحاكمة.نهاية الكل.. راسبوتين وقتلته ورومانوف والعثمانيونوبعد أن انتصرت الثورة الشيوعية، تم قتل هذا الضابط أيضا، بالاضافة الى جملة التصفيات التي طالت كل ورثة رومانوف من العائلة القيصرية، في أعنف تصفية سياسية شهدها التاريخ.كتب راسبوتين للقيصر نيقولا الثاني، في شكل أكثر وضوحاً، منبهاً إياه من خطورة التدخل العسكري في حرب البلقان، ضد الدولة العثمانية، وأنه حتى لو حدث واصطدم مع الألمان، وفاز عليهم، فإن الموت سيكون المصير المحتوم لأهل روسيا. وحذّره بلغة أدبية قاطعة، بأن من ينصحونه بالتدخل العسكري لايعرفون ما الذي سيكون بانتظارهم؟ وأنه لايرى سوى الدماء في المستقبل القريب.ويقال إن "راسبوتين" قد هدّد أسرة القياصرة من أن اشتراكهم في الحرب ضد العثمانيين سينهي آل رومانوف، وسيكون آخر عهد للقياصرة. وأثبت الواقع ذلك، بعد أشهر قليلة. إلا أن الأمر انتهى أيضا بنهاية السلطنة العثمانية.السيبيري الجِلف أم القادة المتحضّرون؟ويعود الاعلاميون والكتّاب الآن الى "نصيحة راسبوتين" في ظل التدخل العسكري الروسي في سوريا، قائلين: إذا كان التدخل الروسي ـ ولو من طريق انشاء حلف البلقان الذي كانت روسيا وراءه ـ في البلقان أنهى حكم القياصرة، فماالذي سيحصل في روسيا الآن، بعد تدخلها العسكري على الأراضي السورية؟وهل يعقل أن ما رفضه "الراهب الأسطوري الماجن الذي نسجت حوله الروايات" في تدخل بلاده في حرب البلقان، يأتي ويقبله الرئيس بوتين في الأرض السورية!فهل كان "راسبوتين" السيبيري الجلف والمحتال الدجّال، أكثر تعقلاً من بعض القادة المتأنقين والمتحضّرين؟!