ربما لا يعرف كثيرون شيئاً عن مأساة حوالي نصف مليون مصري على الأقل سخّرهم البريطانيون في أوائل القرن الماضي للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، فيما عرف وقتها "بالفيلق المصري".
الواقعة لم تنل الضوء الكافي سواء في كتب التاريخ الأكاديمية أو المناهج الدراسية، أو وسائل الإعلام المحلية أو العالمية، فكاد أن يطويها النسيان لولا أن تناولها بعض الفنانين والأدباء في أعمالهم.
ويُعد كتاب الدكتور محمد أبو الغار أستاذ طب الأطفال الذي صدر مؤخراً بعنوان "الفيلق المصري ـ جريمة خطف نصف مليون مصري" إحدى المحاولات الجادة للكشف عن تفاصيل مشاركة أكثر من 500 ألف مصري في الحرب رغماً عنهم.
اعتمد أبو الغار في كتابه الصادر عن دار الشروق على وثائق وخطابات ضابط بريطاني كان مسؤولاً عن مراقبة "الفيلق المصري"، وفيه يعرض القصة من بدايتها حينما طلب وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر بلفور من الحكومة المصرية إصدار أوامرها إلى مأموري المراكز والعُمَد في القرى بالقبض على شباب الفلاحين، وربطهم بالحبال وترحيلهم مع الجيش البريطاني إلى سيناء وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق وغرب تركيا وجزر اليونان وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا، ليقوموا بأعمال شاقة مثل بناء خطوط السكك الحديدية وتحميل السفن أو تفريغها.
يقول الكتاب: "وبالفعل تم ترحيل ما يقدر بحوالي 530 ألف فلاح حين كان تعداد مصر 12 مليون نسمة، وقُتل منهم حوالي 50 ألف فلاح أي 10% من فلاحي مصر" في ذلك الوقت.
ويتابع: "ولمّا غاب الفلاحون عن الأرض نقُص المحصول وارتفع ثمن الغذاء، فحدثت مجاعات في مناطق من مصر، وكان سوء معاملة الإنجليز للفلاحين وضربهم بالكرباج وإهانتهم سبباً في غضب عارم على السلطة التي أجبرتهم على الالتحاق بفيلق الفلاحين".
شح المعلومات وندرة الوثائق
لم تكن الكتابة عن هذه القضية بالأمر الهين في ظل شح المعلومات وندرة الوثائق، ويروي أبو الغار لوكالة أنباء "العالم العربي" حجم الصعوبات التي واجهها لتوثيق المعلومات بشأن هذه الحادثة، وقال إنه "اطّلع على مذكرات أحد الضابط البريطانيين، وخطاباته التي أرسلها للوزارات وأصدقائه وأسرته في إنجلترا".
ويشير إلى أن هذه الخطابات يصل عمرها إلى أكثر من 100 عام، ولم تكن في حالة من الوضوح بسبب كتابتها بالحبر في ذلك الوقت ما تطلب الاستعانة بأدوات تكبير وإضاءة لمعرفة الخط وفك شفراته.
وقال إنه لم يجد سوى معلومات قليلة في بعض الكتب المصرية التي تناولت هذا الموضوع بشكل عابر، مثل "مذكرات سعد زغلول" وكتاب المؤرخ المصري الراحل صلاح عيسى "رجال ريا وسكينة: سيرة اجتماعية وسياسية".
وأضاف أن "المعلومات الأهم بشأن هذا الموضوع كانت في كتب ووثائق أجنبية".
ويستعرض أبو الغار في كتابه حجم المعاناة التي تعرض لها الجنود المصريون لإرغامهم على المشاركة في الحرب العالمية الأولى، قائلاً: "قوات الاحتلال البريطاني في ذلك الوقت كانوا يخطتفون الفلاحين، ويأخذونهم من الجوامع والبيوت قسراً، ثم يقيدونهم بالحبال والسلاسل، ليتم نقلهم إلى أماكن العمل، هذا هو الفيلق المصري".
ويتابع: "كانوا يزيّفون الحقائق ويغرون الفلاحين بمكاسب وهمية، ثم يسخروهم للعمل".
ويقول إن مشاركة الفلاحين المصريين في الحرب العالمية تسببت في بوار الأراضي الزراعية، ما أثر بشكل كبير على الاقتصاد المصري في ذلك الوقت.
ويشير أبو الغار إلى وجود نصب تذكاري لضحايا مصر في الحرب العالمية الأولى بمحافظة الجيزة لا يعلم عنه أحد، وأردف: "هذا النصب موجود داخل أحد مستشفيات الرمد ومغلق منذ 8 سنوات".
الذاكرة الشعبية
يتفق المؤرخ الدكتور أشرف صبري مع الدكتور أبو الغار على وجود ضحايا لمصر في الحرب العالمية الأولى، لكنه يختلف بشأن أعداد المصريين الذين شاركوا فيها، إذ يعطي رقماً أكبر بكثير يقدره بنحو مليون و200 ألف مصري.
وقال صبري في مقابلة صحافية نشرت في الآونة الأخيرة، إنه ذهب إلى هيئة الكومنولث واطّلع على قائمة بكل الضحايا المصريين ممن قضوا في الحرب ودفنوا في مقابر الكومنولث العسكرية.
وأضاف أنه اكتشف أن معظم الضحايا من صعيد مصر، كما وجد مقابر للجندي المصري المجهول بمدينة مارسيليا في فرنسا.
وقال إنه ذهب إلى صعيد مصر للبحث عن أهالي الضحايا، خاصة أن لديه قائمة بأسمائهم وقراهم، لكنه فشل في ذلك بسبب غياب التوثيق.
وأضاف: "أرى أنه من حق أهالي هؤلاء الذين دفنوا في مقابر الكومنولث استرداد مستحقاتهم المالية، خاصة أن لكل منهم راتباً شهرياً يورث منذ الحرب العالمية الأولى".
ورغم تجاهل كتب التاريخ الأكاديمية لهذه الحادثة طيلة السنوات الماضية، احتفظت بها الذاكرة الشعبية على هيئة أغان وروايات وقصص شعبية، ومن ذلك أغنية "يا عزيز عيني أنا بدّي اروّح بلدي" للفنان المصري الراحل سيد درويش والتي كتب كلماتها محمد يونس القاضي.
كما وثّقتها أعمال أدبية مثل رواية (بين القصرين) للكاتب والروائي المصري الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ، وكتاب (مذكرات قرية) للكاتب المصري عصمت سيف الدولة، ورواية (الفيلق) للروائي أمين عز الدين.
ويُعزي المؤرخ الدكتور محمد الشافعي عدم الاهتمام الكافي بقصة مشاركة الفيلق المصري في الحرب العالمية الأولى إلى عدم توثيقها في السجلات الرسمية.
وقال لوكالة أنباء "العالم العربي" إنه تم الاعتماد على الروايات الشعبية في رصد مشاركة مصر في الحرب العالمية الأولى، وذلك بسبب "عدم وجود سجلات رسمية بأسماء المصريين المشاركين في الحرب أو ضحايا الحرب منهم، خاصة وأن مصر كانت وقتها تحت الاحتلال البريطاني وكان يتم جمع الفلاحين قسراً وبشكل عشوائي".
وأرجع الشافعي عدم ذكر كتب التاريخ الأكاديمية لهذه القصة إلى عدم وجود وثائق رسمية لأسماء جنود هذا الفيلق، وقال: "الروايات المتواترة جزء من عملية التوثيق، لكن لا يمكن الاعتماد عليها بشكل كامل".
وأضاف: "خلال إحدى زياراتي لمدينة باستيا الفرنسية وجدت قبوراً لجنود مصريين وعرب من ضحايا الحرب العالمية، لكن من الصعب الاستدلال على هويتهم الحقيقية بسبب عدم وجود البيانات الكافية".
الواقعة لم تنل الضوء الكافي سواء في كتب التاريخ الأكاديمية أو المناهج الدراسية، أو وسائل الإعلام المحلية أو العالمية، فكاد أن يطويها النسيان لولا أن تناولها بعض الفنانين والأدباء في أعمالهم.
ويُعد كتاب الدكتور محمد أبو الغار أستاذ طب الأطفال الذي صدر مؤخراً بعنوان "الفيلق المصري ـ جريمة خطف نصف مليون مصري" إحدى المحاولات الجادة للكشف عن تفاصيل مشاركة أكثر من 500 ألف مصري في الحرب رغماً عنهم.
اعتمد أبو الغار في كتابه الصادر عن دار الشروق على وثائق وخطابات ضابط بريطاني كان مسؤولاً عن مراقبة "الفيلق المصري"، وفيه يعرض القصة من بدايتها حينما طلب وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر بلفور من الحكومة المصرية إصدار أوامرها إلى مأموري المراكز والعُمَد في القرى بالقبض على شباب الفلاحين، وربطهم بالحبال وترحيلهم مع الجيش البريطاني إلى سيناء وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق وغرب تركيا وجزر اليونان وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا، ليقوموا بأعمال شاقة مثل بناء خطوط السكك الحديدية وتحميل السفن أو تفريغها.
يقول الكتاب: "وبالفعل تم ترحيل ما يقدر بحوالي 530 ألف فلاح حين كان تعداد مصر 12 مليون نسمة، وقُتل منهم حوالي 50 ألف فلاح أي 10% من فلاحي مصر" في ذلك الوقت.
ويتابع: "ولمّا غاب الفلاحون عن الأرض نقُص المحصول وارتفع ثمن الغذاء، فحدثت مجاعات في مناطق من مصر، وكان سوء معاملة الإنجليز للفلاحين وضربهم بالكرباج وإهانتهم سبباً في غضب عارم على السلطة التي أجبرتهم على الالتحاق بفيلق الفلاحين".
شح المعلومات وندرة الوثائق
لم تكن الكتابة عن هذه القضية بالأمر الهين في ظل شح المعلومات وندرة الوثائق، ويروي أبو الغار لوكالة أنباء "العالم العربي" حجم الصعوبات التي واجهها لتوثيق المعلومات بشأن هذه الحادثة، وقال إنه "اطّلع على مذكرات أحد الضابط البريطانيين، وخطاباته التي أرسلها للوزارات وأصدقائه وأسرته في إنجلترا".
ويشير إلى أن هذه الخطابات يصل عمرها إلى أكثر من 100 عام، ولم تكن في حالة من الوضوح بسبب كتابتها بالحبر في ذلك الوقت ما تطلب الاستعانة بأدوات تكبير وإضاءة لمعرفة الخط وفك شفراته.
وقال إنه لم يجد سوى معلومات قليلة في بعض الكتب المصرية التي تناولت هذا الموضوع بشكل عابر، مثل "مذكرات سعد زغلول" وكتاب المؤرخ المصري الراحل صلاح عيسى "رجال ريا وسكينة: سيرة اجتماعية وسياسية".
وأضاف أن "المعلومات الأهم بشأن هذا الموضوع كانت في كتب ووثائق أجنبية".
ويستعرض أبو الغار في كتابه حجم المعاناة التي تعرض لها الجنود المصريون لإرغامهم على المشاركة في الحرب العالمية الأولى، قائلاً: "قوات الاحتلال البريطاني في ذلك الوقت كانوا يخطتفون الفلاحين، ويأخذونهم من الجوامع والبيوت قسراً، ثم يقيدونهم بالحبال والسلاسل، ليتم نقلهم إلى أماكن العمل، هذا هو الفيلق المصري".
ويتابع: "كانوا يزيّفون الحقائق ويغرون الفلاحين بمكاسب وهمية، ثم يسخروهم للعمل".
ويقول إن مشاركة الفلاحين المصريين في الحرب العالمية تسببت في بوار الأراضي الزراعية، ما أثر بشكل كبير على الاقتصاد المصري في ذلك الوقت.
ويشير أبو الغار إلى وجود نصب تذكاري لضحايا مصر في الحرب العالمية الأولى بمحافظة الجيزة لا يعلم عنه أحد، وأردف: "هذا النصب موجود داخل أحد مستشفيات الرمد ومغلق منذ 8 سنوات".
الذاكرة الشعبية
يتفق المؤرخ الدكتور أشرف صبري مع الدكتور أبو الغار على وجود ضحايا لمصر في الحرب العالمية الأولى، لكنه يختلف بشأن أعداد المصريين الذين شاركوا فيها، إذ يعطي رقماً أكبر بكثير يقدره بنحو مليون و200 ألف مصري.
وقال صبري في مقابلة صحافية نشرت في الآونة الأخيرة، إنه ذهب إلى هيئة الكومنولث واطّلع على قائمة بكل الضحايا المصريين ممن قضوا في الحرب ودفنوا في مقابر الكومنولث العسكرية.
وأضاف أنه اكتشف أن معظم الضحايا من صعيد مصر، كما وجد مقابر للجندي المصري المجهول بمدينة مارسيليا في فرنسا.
وقال إنه ذهب إلى صعيد مصر للبحث عن أهالي الضحايا، خاصة أن لديه قائمة بأسمائهم وقراهم، لكنه فشل في ذلك بسبب غياب التوثيق.
وأضاف: "أرى أنه من حق أهالي هؤلاء الذين دفنوا في مقابر الكومنولث استرداد مستحقاتهم المالية، خاصة أن لكل منهم راتباً شهرياً يورث منذ الحرب العالمية الأولى".
ورغم تجاهل كتب التاريخ الأكاديمية لهذه الحادثة طيلة السنوات الماضية، احتفظت بها الذاكرة الشعبية على هيئة أغان وروايات وقصص شعبية، ومن ذلك أغنية "يا عزيز عيني أنا بدّي اروّح بلدي" للفنان المصري الراحل سيد درويش والتي كتب كلماتها محمد يونس القاضي.
كما وثّقتها أعمال أدبية مثل رواية (بين القصرين) للكاتب والروائي المصري الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ، وكتاب (مذكرات قرية) للكاتب المصري عصمت سيف الدولة، ورواية (الفيلق) للروائي أمين عز الدين.
ويُعزي المؤرخ الدكتور محمد الشافعي عدم الاهتمام الكافي بقصة مشاركة الفيلق المصري في الحرب العالمية الأولى إلى عدم توثيقها في السجلات الرسمية.
وقال لوكالة أنباء "العالم العربي" إنه تم الاعتماد على الروايات الشعبية في رصد مشاركة مصر في الحرب العالمية الأولى، وذلك بسبب "عدم وجود سجلات رسمية بأسماء المصريين المشاركين في الحرب أو ضحايا الحرب منهم، خاصة وأن مصر كانت وقتها تحت الاحتلال البريطاني وكان يتم جمع الفلاحين قسراً وبشكل عشوائي".
وأرجع الشافعي عدم ذكر كتب التاريخ الأكاديمية لهذه القصة إلى عدم وجود وثائق رسمية لأسماء جنود هذا الفيلق، وقال: "الروايات المتواترة جزء من عملية التوثيق، لكن لا يمكن الاعتماد عليها بشكل كامل".
وأضاف: "خلال إحدى زياراتي لمدينة باستيا الفرنسية وجدت قبوراً لجنود مصريين وعرب من ضحايا الحرب العالمية، لكن من الصعب الاستدلال على هويتهم الحقيقية بسبب عدم وجود البيانات الكافية".