^ كان حلم الإنسان منذ القدم معرفة أسرار المستقبل، وظل الأمل الذي يتوق إليه البشر هو توفر الفرصة لاكتشاف (المجهولات) بهدف تجنب المشكلات والمصاعب المحتملة، والاستفادة من المنافع المادية التي سوف تجلبها الأيام المقبلة. ثم أن قدرتنا على معرفة المستقبل سوف تمكننا من تحديد مسارنا بنحو سليم نستطيع معه ضمان عدم تعرض السنوات الآتية لأية اضطرابات، لأننا نعلم أصلاً ما يخبئه الزمن. وأحداث المستقبل التي تقع في أوقات معينة، ونتوقع نحن وقوعها قبل الأوان تقع في حيز ما يعرف بـ(الهواجس)، وهذه الحالة تواجه العديد من الأشخاص بين حين وآخر ويصادف أحياناً، أن تصدق تلك التوقعات. وتعد (الكهانة) من أبسط أشكال معرفة المستقبل، والتي يكثر فيها المدعون والدجالون، ومع ذلك فأنها في بعض الأحيان تثير اهتماماً خاصاً، ومن أشهرها حالة العراف الفرنسي الشهير نوستراداموس الذي عاش في القرن السادس عشر (1503 – 1566م)، ورغم أنه نظم نبوءاته شعراً بأسلوب رمزي غامض إلاّ أن المتحمسين له يقولون: إنه تنبأ بظهور نابليون وهتلر، والهجوم الذري على هيروشيما وناجازاكي، وتخلي الملك إدوارد الثامن عن العرش، ومصرع جون وروبرت كنيدي. كان مذهلاً أن يتنبأ نوستراداموس بذلك كله قبل أن يحدث بعشرات ومئات السنين.. وكانت له تنبؤات أخرى بصعود ملوك وبابوات وانتشار أوبئة ومجاعات، تحققت جميعها على نحو مذهل. أما المقطع الخاص بطريقة موته هو شخصياً فكان من أدق المقاطع التي وردت في كتابه وأغربها، فهو يقول: “بعد عودته من سفارته، سيعثر عليه أقرباؤه وأصدقاؤه بالقرب من سرير.. أما هو فسيكون في طريقه إلى الله”. وبعد أكثر من عشرين سنة من كتابته لهذه النبوءة، أوفده أهل مدينة “سالون” في مهمة إلى مدينة “أرليه”، وبعد عودته ذهب بعض أقاربه للاطمئنان عليه، إذ كان يشكو من مرض النقرس، ويعيش في بيته بمفرده.. ولما لم يرد عليهم بعدما طرقوا الباب عليه اضطروا أن يفتحوا الباب عنوة، عندها وجدوه ميتاً على الأرض في غرفة نومه بالقرب من سريره!! ورغم أن كتاب نبوءات نوستراداموس المعروف باسم القرون وضعته الكنيسة في قائمة الكتب الممنوعة من التداول في العام 1781م، إلا أن هذا الكتاب ظل يطبع بانتظام طوال الأربعمائة سنة التالية لتأليفه. ويذكر أنه كلما ازدادت ضخامة كارثة ما، كثر حديث الآخرين عنها، وعن توقعهم لحدوثها، وعلى سبيل المثال هناك العديد من الروايات التي تحدثت عن غرق الباخرة العملاقة (تيتانيك)، وعن اغتيال بعض الشخصيات السياسية الشهيرة . وفي العام 1966م تعرضت قرية (أبيرفان) في ويلز إلى انهيار أرضي أدى إلى مصرع 116 طفلاً في مدرسة القرية، بالإضافة إلى 28 شخصاً من البالغين وأظهرت دراسة أجريت بعد وقت قصير من وقوع الكارثة أن هناك ما لا يقل عن 76 شخصاً كانت لديهم فكرة واضحة عنها، وأنهم عاشوا هاجس المأساة قبل وقوعها بوقت قصير، وتبين أن 24 منهم تحدثوا عن الكارثة قبل حدوثها بالإضافة إلى أن اثنين دوّنا هواجسهم المتعلقة بها خطياً. وفي حالات قليلة قد يتمكن المرء من (تلقي) هواجس مفصلة تماماً عن قضية ما دون أن يدرك ماهيتها وأبعادها، وهذا على وجه التحديد ما حدث مع المؤلف الذي لم يشتهر كثيراً (مورغان روبرتسون)، الذي كتب عام 1898م رواية بعنوان “التيتان” والإشارة هنا إلى الباخرة العملاقة التي كانت الأضخم من نوعها في العالم، والتي غرقت في رحلتها الأولى، بعد ارتطامها بجبل جليدي، وقتل في تلك الكارثة معظم ركابها البالغ عددهم ألف وخمسمائة شخص. وتعود أسباب الخسارة الهائلة في الأرواح، إلى حقيقة إدارية وفنية وهي أن قوارب النجاة في الباخرة الوهمية كانت غير كافية فلم تستوعب إلا نصف عدد الركاب أو أقل من ذلك. وبعد عشرين عاماً من ذلك التاريخ اصطدمت الباخرة “تيتانيك” بجبل جليدي في رحلتها الأولى وغرق معها معظم ركابها بسبب قلة عدد قوارب النجاة على متنها. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الأشخاص ألغوا رحلتهم بسبب هواجس مرعبة، كما أن بعض الذين قرروا المضي في الرحلة أبلغوا أقاربهم وبعض الأصدقاء بإحساسهم بأن (شيئاً ما سوف يحدث). فالهواجس الجماعية أو الفردية كانت كلها تشير إلى معنى واحد هو “الإدراك التنبؤي”، أو التنبؤ بالمستقبل، وهو واحد من قدرات الإدراك فوق الحسي التي تمكن صاحبها من معرفة المستقبل، واستباق الأحداث، وتوقع ما سيحدث قبل وقوعه، وقد حفل تراثنا العربي بالعديد من النماذج التنبؤية، وعدت معرفة المستقبل أحد مظاهر الكرامات الصوفية عبر الاستقصاءات الذهنية لأحداث تقع وراء الزمن الحاضر، واصطلح مفسرو التصوف على موضوع الإدراك المسبق بـ (الكشف)، وهو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجوداً حسياً وشهوداً مادياً متعين الأبعاد: “العارف بنور اليقين ما غاب على بصر المخلوقات من أسرار الحق تعالى”. وعرضت أدبيات التصوف لهذا النوع من الكرامات، وذكرت أن كثيراً من أعلام الصوفية كانوا يمتلكون قدرات تنبؤية من أمثال الحسين بن منصور الحلاج (309هـ)، الذي حدد طريقة وأسلوب مقتله في قوله: على دين الصليب يكون موتي ولا البطحا أريد ولا المدينة وأبو يزيد البسطامي والشبلي وسواهما ممن كانوا يخبرون بالحوادث المقبلة قبل وقوعها. ومن أشهر المرويات الصوفية في هذا الصدد أيضاً، حكاية أبي القاسم القشيري (ت 465 هـ) حين أنبأ أستاذه عن موعد موته: “يا أستاذي عند الظهر أموت، فخذ هذا الدينار، فكفني بنصفه، وأحضر لي قبراً بنصفه، فلما كان الغد عند الظهر، جاء فطاف سبعاً، ثم امتد نحو القبلة ومات”. وفي هذا الصدد ثمة مرويات مماثلة تنسب إلى الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم 203 هـ منها؛ قال الرجل: استعد لما لا بد منه، فمات بعد ثلاثة أيام. وأنه قال: “أنا وهارون الرشيد ندفن في بيت واحد”.. (الإمام والخليفة العباسي متجاوران في قبريهما بمدينة مشهد في محافظة فارس). وثمة إدراكات تنبؤية تشبه (الانذارات المبكرة) في لغتنا المعاصرة، مثل تحديد زمان ومكان الكوارث قبل وقوعها، وإنذارهم بما يتوجب عمله لتجنب هذه الكوارث أو التقليل من آثارها. وإذا كان الإدراك التنبؤي لدى الصوفية ينحصر في دائرة الموت، وتوقيتات حدوثه مكاناً وزماناً، ويأتي عبر (الإلهام) فإنه في المقابل يأخذ مفهوماً نفسياً آخر هو (الهاجس) في نطاق الباراسايكولوجيا، وهو أقل درجة في الإثبات والتحقيق على صعيد المقدمات والنتائج التنبؤية.
لمناسبــــــة مئــــويــــة تايتنيــــك
27 مايو 2012