صفحات متخصصه

الشيخ راشد بوحمود.. فقد بصره في سن العاشرة وحفظ القرآن كفيفاً



حمد السليس

شخصية محرقية عرفتها محاريب المساجد على مدى 60 عاماً

أُنقذ من فتحة مكيف مسجد بن نصر بالمحرق بعد انهياره

حاله المعيشي لم يخدش همته.. كان محباً للعلم راغباً فيه باذلاً له


شخصية محرقية وفقيه من فقهاء المالكية بالبحرين عرفته محاريب المساجد لمدة 60 عاماً، فقد بدأ رحمه الله بحفظ القرآن الكريم على يد امرأة ثمّ عند غيرها من المعلمين إلى أن حفظه كاملاً.

إنه الشيخ راشد بن سالم بوحمود رحمه الله تعالى - الذي ولد في 1925، حيث أنست به الحلقات والدروس وألفه الناس لأخلاقه وتواضعه، فقد كان رحمه الله كفيفاً بعد أن فقد بصره وهو في سن العاشرة بسبب مرض الجدري، وكان يُذْهَبُ به في شهر رمضان المبارك إلى مسجد ليصلي التراويح خلف إمام يختم القرآن، لتكون فرصة له في مراجعته وتعاهده لكتاب الله تعالى.

«الوطن» تستعرض مسيرة الشيخ بوحمود رحمه الله الحافلة بالعطاء، حيث شهد بعض المواقف الصعبة في حياته، من ضمنها إنقاذه من إحدى فتحات مكيف مسجد بن نصر بفريق البوكواره في المحرق الذي انهار عليه ومن معه، وكان ذلك في بداية الثمانيناتً.

ولد الشيخ راشد بمدينة المحرق عام 1344هـ / 1925 ويغلب على الظن أن ولادته كانت قبل هذا التاريخ المثبت، وتوفي والده وهو صغير، وتربى في كنف أمه وأخواله من أسرة أبي هيّال، وقد كان في بداية حياته مُبصرًا وفي العاشرة من عمره فقد بصره بسبب مرض الجدري. تزوج الشيخ بوحمود، وله من الأبناء أربعة: أحمد ومحمد ومال الله وسالم، ومن البنات خمس: شريفة وعائشة وفاطمة وبدرية ومريم.

وكان رحمه الله عابداً تقياً ورعاً قنوعاً صبوراً وقوراً باذلاً للخير، قليلَ الكلام عفَّ اللسان يحب الدعابة والمِزاح، ساعياً في جمع الكلمة وإصلاح ذات البين، يَنْأى بنفسه عن الكلام فيما يُفَرِقُ الأمة ويشتتها، دائماً ما تصحب تعابير وجهه تلك الابتسامة السعيدة الراضية.

نشأته العلمية

بدأ بحفظ القرآن الكريم على يد امرأة ثمّ عند غيرها من المعلمين إلى أن حفظه كاملاً، وكان بعد ذلك وهو كفيف البصر في شهر رمضان يُذْهَبُ به إلى مسجد ليصلي التراويح خلف إمام يختم القرآن، لتكون فرصة له في مراجعته وتعاهده لكتاب الله تعالى، وقد درس الفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس وغير ذلك من العلوم الشرعية.

تلقى تعليمه للعلوم الشرعية على مشايخ البحرين ومنهم الشيخ عبدالله بن الشيخ إبراهيم الصحاف المالكي، والشيخ القاضي عبداللطيف بن علي الجودر المالكي، والشيخ محمد بن الشيخ عيسى بن راشد بن خميس المالكي، والشيخ عبدالعزيز بن عيسى الجامع الحنبلي ثم المالكي، والشيخ القاضي عبدالله بن عبدالعزيز آل الشيخ مبارك الأحسائي المالكي.

ولم تتسن له الفرصة في الارتحال رحمه الله في طلب العلم، وقد يرجع ذلك لفقد بصره في سنٍّ مبكرة، أو بسبب الحال المعيشي، وهذا لا يخدش في همة الشيخ راشد فقد كان محبا للعلم راغبا فيه باذلا له.

أعماله الدينية

قُدّم لإمامة الناس بمسجد سيادي، ثم عين إماماً في عددٍ من المساجد بالمحرق إلى أن انتهى به التعيين للإمامة بمسجد بن نصر بفريق البوكواره بالمحرق إلى أن توفاه الله وهو عن عمر يناهز الـ40 عاماً، وبمجموع 60 سنة من أولى سنوات إمامته في المساجد.

وكان مع إمامته متطوعاً للتدريس فكانت لديه حلقات قرآنية ودروس علمية، إضافة لإقامته الدروس الوعظية في مسجده، واحتفاله بذكرى المولد الشريف في المجالس القريبة من الحي، وإقامته مجالس التثويب عند دعوته من أقارب المتوفين، وكان رحمه الله مصلحاً أسرياً فحفظت بتوفيق الله تعالى له أُسراً كانت على أبواب التفكك والانهيار.

الكتب درسها وقُرئت عليه

كان رحمه الله حريصاً على إقراء كتب السنة النبوية، فأقرأ صحيح البخاري للإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، وسنن النسائي للإمام أبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي، والموطأ لإمام دار الهجرة أبي عبدالله مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله، وكذلك في أحاديث الأحكام كُررت قراءة كتاب بلوغ المرام من أدلة الأحكام للإمام ابن حجر العسقلاني.

وكان الشيخ يحث الطلبة على الاهتمام بالفقه والتركيز عليه؛ بل كان رحمه الله يحث العامي على تعلم جملة من العبادات من خلال قراءة كتاب فقهي ليُصلح به عبادته وحاله؛ ومن جملة ما قُرأ عليه في فقه المالكية:

1- العشماوية مع شرحها للشيخ أحمد بن تركي وحاشيتها للصَفْتِي.

2- هداية المتعبد السالك شرح متن الأخضري للشيخ صالح عبدالسميع الآبّي الأزهري.

3- المقدمة العزية للجماعة الأزهرية للشيخ العلامة أبي الحسن علي المُنوفي المالكي.

4- متن الرسالة للإمام ابن أبي زيد القيرواني.

5- تدريب السالك للعلامة الشيخ عبدالعزيز بن حمد آل الشيخ مبارك الأحسائي.

6- أقرب المسالك وشرحه الشرح الصغير للشيخ العلامة سيدي أحمد الدَرْدِير.

وكان يدرس علم الفرائض تدريسا نظريا. وفي اللغة: كان يدرّس علم النحو، فدرّس متن الآجرومية وعلّق على شرح الشيخ خالد الأزهري وشرح الشيخ محمد محيي الدين عبدالحميد.

وفي الآداب والتزكية قُرأ عليه كتاب الروح للإمام أبي عبدالله شمس الدين ابن قيم الجوزية، وغيرها من الكتب النافعة.

ومن أبرز تلاميذه الدكتور إبراهيم بن عبدالله مطر، والشيخ أحمد بن جلال رحمه الله، والشيخ أحمد بن علي القلاف، والشيخ حسين بن خليل اليازي، والشيخ القاضي عدنان بن عبدالله القطّان، والشيخ وحيد بن عبدالله مال الله، والشيخ وديع بن عبدالله العربي، وممن أفاد منه كذلك عبدالله بن مساعد وعتيق بن راشد رحمهما الله وعلي بودلامة وحسان المنصوري.

زياراتٌ وصِلاتٌ

كان الشيخ راشد رحمه الله على صلة وثيقة وزيارات مستمرة في المناسبات وغيرها لأهل العلم والفضل، ففي المحرق كان يحرص على زيارة مشايخه في التعليم، وهم الشيخ القاضي عبداللطيف الجودر، والشيخ القاضي عبدالله بن عبدالعزيز آل الشيخ مبارك «القاضي المُميّز» فترة تواجده في البحرين وقبل رجوعه إلى الأحساء، وهذا يدل على إحسانه وبرّه بأشياخه ومربيه، ويزور زميله الشيخ محمد بن أحمد الأحمدي إمام مسجد الصادق بالمحرق الذي توفي 1411هـ/1991، وهذا يدل على حسن صلته ولطف عشرته.

وفي المنامة كان يزور مجلس آل سعد في فترة حياة فضيلة الشيخ القاضي عبداللطيف بن الشيخ محمد آل سعد (ت1387هـ/1968)، واستمرت زياراته للمجلس إلى وفاته رحمه الله وكان حينها القائم على المجلس الشيخ القاضي إبراهيم بن الشيخ عبداللطيف آل سعد (ت1438هـ/2017)، وأيضا كان يزور الشيخ محمد الحبّاب بن الشيخ أحمد المهزع (ت1398هـ/ 1978)، وكذلك صديقه الحميم وشبيهه في الهيئة والصورة الشيخ عبدالرحمن بن عيسى الشنو (ت1414هـ/1993).

وفي خارج البحرين كانت تربطه علاقة بأسرة آل أبي بكر الملا الأحسائية، فكان يزورهم في مجلسهم ومدرستهم بالأحساء مرات، وقد حجَّ الشيخ راشد مرة رحمه الله.

مواقف وذكريات

في بداية الثمانينات كان مسجد بن نصر متهالك البناء، وبعد صلاة الظهر في ذلك اليوم سُمِع سقوط حجارة فظنوا أن سيارة نقل تقوم بإفراغ الطابوق، ففوجئوا بالجزء الخلفي للمسجد يهوي إلى أن تتابع إلى الجزء الأمامي ولم يبق إلا جزء يسير، وقد أُخرج الشيخ راشد رحمه الله هو ومن معه ومنهم مؤذن المسجد عبدالله بن مساعد رحمه الله وقد كان كفيفًا أيضا من فتحة المكيّف.

خاطرة الرحيل

كان رحمه الله أكبر رواد مجلس الجد حمد بن عبدالرحمن البوعفرة الكواري (ت1421هـ/2001) الأسبوعي بعد صلاة الجمعة، ولم ينقطع عنه حتى بعد وفاة الجد حمد فقد كان صديقاً وفيّاً له، وجاراً عزيزاً عليه؛ وبفضل ذلك يذكر جيداً بعض حديثه النافع وارتسامات وجهه الجميلة التي غمرت المجلس روحاً وفعاليةً وخاصة عن سؤالات الحاضرين واستفتائهم له أو مؤانسته لمن حوله بقصة نافعة، يتردد في مسمعه صوته: «صلاة التراويح لهذه الليلة 20 ركعة، لاتزال تنعكس بين عيني صورة ذلك الشيخ الذي يلبس بشتاً يمسك عصاه خارجاً من بيته إلى المسجد فأُمسك بيديه، وكان لا يدخل إلا من الباب الأوسط في ليوان المسجد! ما رأيته إلا منبسطاً إلى الناس سائلاً عن أحوالهم، وقد أثنى عليه أقرانه وزملاؤه وأوصوا من يعرفه بالدراسة عنده والأخذ عنه كالشيخ محمد الأحمدي والأستاذ عبدالله الجودر صاحب المكتبة العصرية بالمحرق».

وفي عصر يوم الأربعاء 18 من شهر ذي الحجة سنة 1426هـ، الموافق 18 يناير 2006 توفي الشيخ راشد بن سالم بوحمود، ودُفِنَ في صباح يوم الخميس بمقبرة المحرق، ولايزال من الأعلام أصحاب الأقدار الرفعية والمعارف الشريفة سيرهم دفينةٌ منسية ومع ذلك إن لم يحفظ التاريخ عطاء أولئك، فهم حفظوا عطاءهم لأنفسهم باحتساب أجر بذلهم وعطائهم وتدريسهم وإصلاحهم وحضورهم في مجتمعهم.