السؤال القديم المتجدد الذي يواجهه الكاتب، بل تواجهه الكتابة ذاتها، هو لماذا نكتب؟ ماذا نريد بكتاباتنا؟ وماذا نضيف للآخرين والحياة حين نكتب؟ ثمة إجابات مستهلكة قدمتها المدارس النقدية باختلاف فلسفاتها، وتداولها الكتاب والمثقفون عن القيمة المضافة للكتابة والنشر. مثل خلق المتعة، أو الكتابة لأجل الكتابة، أو سبر أغوار التجربة والتعبير عنها. واكتشاف الحياة ورسم تفاصيلها من أكثر من جانب. وعقد شراكات مع القراء. ولكنْ قليل من المبدعين من أدرك علاقته الشخصية بالكتابة. وأثرها فيه، قبل تأثيرها في الآخرين. ليكشف بذلك عن الطاقة الوهاجة التي تبعثها الكتابة في أعماقه، مضيئة بعد ذلك واقعه الخارجي.
في مقابلة ثرية نُشرت في صحيفة الشرق الأوسط، أجرتها رشا أحمد. وعنوانها «الكتابة ملاذي لحماية الذات» وأحلامها»، «أن يمتد بي العمر لأكتب ما أحب»، قدم الكبير شاعر البحرين قاسم حداد ما يمكن تسميتها بـ«رؤية سيّريّة» هي خلاصة علاقته بالكتابة في مسيرة خمسين عاماً من الشعر. ليس كل مبدع قادراً على نقد تجربته وتقييمها. ولكن قاسم، بما هو مخزون التجربة والتجريب، الحياة والأدب، السجن والحرية. وأخيراً.. كما تكشف من رأيه «التمرد واللامبالاة»، قاسم هو الأقدر على فتح مغاليق تجربته الإبداعية وتفكيكها إلى مكوناتها الأولية، ومؤلاتها التي لم تختم بعد.
«ليس الأدب ولا الشعر تحديداً قادراً على مواجهة هذا العالم، والفساد اتسع وأصبح عصياً على الإصلاح». هذا ما قاله حداد. إذن ما فائدة الشعر؟ لماذا يكتبه قاسم وينشره؟ يجيب قاسم: الشعر ملاذ لحماية الذات من الأذى. الكتابة هي التي تحمينا من هذا العالم. وهو تفسير وإن انطوى على حالة من الفردانية والانهزامية أمام قوى الكون. إلا أنها رؤية واقعية تحمي الأدب والشعر من كل المغامرات التي خاضها الحالمون واعدين قراءهم بتقديم الخلاص الأبدي الذي لن يأتي.
وهنا يرسم حداد الحال التي ينبغي أن يتعامل بها الشاعر مع الواقع. وهو سلوك عصي على التطبيق، فعلى الشاعر ألا يتورط في واقعه، وألا ينشغل بمتغيراته الآنية. تاركاً مسافة أمن كافية بين نصه وبين واقعه الخارجي، كي تقول القصيدة ما هو جوهري وتتجاوز التفاصيل الهامشية. إنها عودة إلى صورة المبدع المدرك للواقع، منفصلاً عنه، وليس مشتبكاً معه. هل يمكن تحقيق ذلك؟ ربما، لكنها رؤية قاسم. قاسم الذي تورط طويلاً مع الواقع، ثم تمكن من عقد هدنة إجرائية لا تعصم هذا الواقع من مساءلات قاسم ولا رفضه. وقاسم يلمح إلى رحلة طويلة من النظرة الغاضبة للأمس التي عانى منها، ثم شفي منها باللامبالاة.
قاسم، وفي خاتمة المطاف، قصر غايات شعره على نفسه. في معايشته، هو، القديمة، مع الناس حين كان يعمل بين الطبقات المتوجعة والطامحة. وحين أدرك أن الكون أكبر من المجابهة. وأن قوة الشاعر في استقلاليته عن ديناميكية الواقع الطاحن. وعندما سخّر القصيدة لتحميه من توغل الكون. وحين تمنى أن يعيش طويلاً ليكتب ما يحب.
ونحن نتمنى لشاعرنا الكبير قاسم حداد أن يمتد به العمر كي نقرأ شعره الذي نحب.
أتمنى أن يمتد بي العمر لكي أكتب ما أحب. الشعر لا يخذل، الواقع هو الذي يفعل ذلك. من دون شرط الحرية لا يستطيع المرء أن يتنفس، فما بالك أن يبدع. لا بد من الحرية للمبدع إذا ما أردنا له أن يكتب رأياً أو يحدد موقفاً. لا يمكن أن نستمتع بموسيقى الطيور أو غناء العصافير وهي في القفص.
الحياة مع الناس هي يوميات جديرة بالتجربة الإنسانية في رعاية الشعر. لقد تعلمت دروسي الإنسانية المبكرة من هذا النوع من يوميات العمل. وربما كانت تجربتي الشعرية مدينة لحياتي المشحونة بالعمل. كنت زاخراً بالأمل يوم كنت في العمل، كل الكل في اليدين.