مع رحيلك يا جدي أدركت معاني كثيرة، جعلني رحيلك يا جدي أدرك أحد معاني البركة الكثيرة، فطالما سمعت من يقول إن وجود كبار السن في بيتك «بركة»، بالرغم من التحديات الكثيرة التي تواجهك في رعايتهم، إلا أنها «بركة»، لقد لمست هذا الشعور فعلاً، شعرنا جميعاً بشيء اختفى من المنزل، برائحة لطيفة كانت تعطر أجواءنا، بصوتك الذي ألفناه وألفته جدران البيت، بحكمك وأمثالك التي تلقيها بين فينة وأخرى.

تعلمت من رحيلك يا جدي أن البركة ليست محصورة في أمور ملموسة، بل هي شعور سرمدي يتجاوز الوصف، شعور إلهي منّه الله علينا، وشرحه لنا رسوله الكريم بأن هذا الشعور وهذه المسارات التي في حياتك اليوم هي فعل «البركة».

مع رحيلك يا جدي علمت أن تراكيب الأسر تتغير، فأنت ترحل وأبناؤك يشيبون، ونحن نكبر، فتكبر العائلة وتتقلص التجمعات، وتتكون عوائل صغيرة بدل تلك الكبيرة التي اعتدناها، هي مازالت كبيرة لدى تلك العائلة الصغيرة بشعورنا نحن في الماضي.

علمني رحيلك يا جدي أن العلاقات هي رأس المال الحقيقي، خصوصاً تلك العلاقات الصافية المبنية على الحب والفطرة، وليست مبنية على النفعية والفردانية، فحتى وقت متأخر من عمرك وإدراكك ومع كل جولة في السوق كنت تحرص على أن تمر بعدد من الذين اعتادوا أن تعطيهم ما يكون في جيبك، وأن تذهب لذات المطعم الذي تفضله وتطلب ذات الوجبة، وثم تعطي العامل «إكرامية» بالرغم من أنه مطعم لم نعتد أن تكون فيه ثقافة «tip» ولكن كنت ترى أبعد من ذلك، وكنت تعلم أعمق من ذلك، أظنني يا جدي سأتعلم منك الكثير مستقبلاً، فإن مد لي بالعمر سأجد تفسيراً يخبرني لم كنت تفعل تلك الأمور بطريقتك الخاصة.

مازلت أسرد قصصك عندما أتحدث عن الشطارة، ومازلت أحاكي من أدرسهم عن كيفية تسييرك للأمور بكل عفوية ودون تكلف وإن لم ترتد أي جامعة ولم تحضر أي دورة للذكاء العاطفي والاجتماعي، ولكن ما تفعله أنت بالفطرة يُدرّس اليوم بأرقى الجامعات، والفرق أنهم يدرسونه ولكنك كنت تطبقه بالفطرة، رحمك الله يا جدي وأسأل الله أن يجمعنا بك في جناته جنات النعيم، وكما وعدتك سأظل أكتب لك دائماً.