منذ وقت ليس ببعيد كنت أظن بأن الصامتين هم وحدهم الذين ينامون كمداً حين لا يجدون من يسمعهم، ولكنني أدركت مؤخراً أن الصامتين في الحقيقة لا ينامون.. فضجة الكلمات تقض مضجعهم كل ليلة.
نصمت وفِي أصابعنا الكثير من الكلمات تتجمع ضجراً في كل مفصل متمنيةً البوح ولا تفعل..
لنعلم كيف تولد الكلمات يتيمة في قلب كاتبها وينشأ الحرف مشرداً في نفس مريبة! لطالما تساءلت لماذا نكتب؟
نحن نكتب عندما تحكم علينا الليالي بالغرق، وتصادق أعيننا الأرق، ولا نجد من نبوح له سوى الورق.. نكتب كي لا نختنق، كي لا نموت كمداً.. نحن نكتب لنُشفَى من جراحنا «جراح الشّعور»، نحن نكتب لأنّ حاجةً مُلحّةً في أعماقنا تدفعنا إلى ذلك .. نكتب أحلامنا، ونحن نعلم أن الكتابة ليست السبيل لتحقيقها ولكن أملٌ مكتوب خَيْرٌ من ألم مكبوت. لكن هل بقي شيء من أحلامنا نكتبه؟! والموت يحاصر غزة من كل اتجاه!
وماذا عن أكبر الأحلام.. «الحلم العربي» هل مازال عربياً فقط؟ أم أن غزة حولته لحلم الشرفاء في كل بقاع العالم، بدءاً من أرض الزيتون وانتهاءً بأرض مانديلا.. لا أعلم كيف اجتاحنا كل هذا الأسى مع بداية الطوفان رغم أملنا الكبير بالنصر.. كيف تقازمت أحلامنا، وامتدت أحزاننا، وتضخمت مشاعرنا، ونحن نعلم يقيناً بأن الفلسطينيين عاشوا هذه المسرحية الدموية أكثر من سبعين سنة.
ورغم الأرقام المرعبة والأعداد المهولة من الشهداء.. لكننا ندرك أن الحرب لا تقاس بضحاياها بل بتحقيق أهدافها السياسية المعلنة وإلا لكانت فيتنام والجزائر أكبر الخاسرين.. آه يا غزة ما أفدح ثمن الحريّة والعِزة!
آلامكِ خلّفت بيني وبين ذاكرة الليل حرباً، والحروب يا عزيزتي مليئة بالمآسي، ولا زلت أعبر عنها بخجلٍ هنا.. وأكتبها على مضض، وفي الجانب الآخر إسرائيل التي تقاسي آلاماً شديدة وإنهياراتٍ متتالية، وشتان بين ألمهم وألم أهل غزة الذين يرجون من الله ما لا يرجون فإما نصر أو استشهاد: «وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً».
رسالة أخيرة
سنبقى ما بقي الزعتر والزيتون.. وسنكتب في كل مرة رسالتنا الأخيرة بحروفٍ مضرّجة بالحلم قبل الدم «إن هذه الحرب موحشة، ومأساة لن تنزح من ذاكرتنا» وأن النصر لآتٍ ولو بعد حين «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّه»، «ألا إن نصر الله قريب».