^ قد تكون الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون قد فوجئوا بالإصرار الروسي- الصيني على استخدام الفيتو لعرقلة استكمال الحلف الأمريكي الغربي لمخططاتهم “بغض النظر عن أهدافها المعلنة وغير المعلنة”، ولكن من الواضح أن مرحلة ما بعد الحرب الباردة التي امتدت من 1991 وحتى 2010م “أي حولي 20 سنة” قد طويت صفحاتها، وأن على الولايات المتحدة أن تواجه من هنا فصاعداً وضعاً عالمياً جديداً انتهت فيه حكاية القطب الواحد، وانتهت فيه خرافة” انتهاء التاريخ” التي روج لها السيد فوكوياما. لقد كسبت الولايات المتحدة الأمريكية معركة القوة بعيد الحرب الباردة، ولكنها لم تنجح في كسب معركة السلام، لأنها في تحركاتها وحروبها لم تنطلق من منطق قيادة العالم وفق القانون الدولي المحقق للسلام والأمن الدوليين. بل انطلقت فقط من منطق الهيمنة وتحقيق المصالح الضيقة المباشرة للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي ومصالح الشركات الاحتكارية. ففي الوقت الذي كانت فيه الأساطيل تتحرك في مياه العالم دون رادع كان السحر الأمريكي يتراجع في أرجاء العالم ويزداد حجم العداء لها.. فالأوروبيون صنعوا (اليورو) بديلاً للدولار وآسيا أعادت ترتيب البيت وفق معادلات مختلفة، روسيا الاتحادية استعادت مكانة الاتحاد السوفياتي السابق، والصين تحولت إلى القوة الاقتصادية الأكبر نمواً وتطفو على سطح الدول المؤثرة في السياسة الدولية، وتعرقل المصالح الأمريكية وترفع الفيتو في مجلس الأمن لحماية مصالحها، وهكذا لم تعد أمريكا تقود العالم بالرغم من أنها لاتزال تهيمن على أجزاء منه، وذلك لأنها لا تملك رؤية لقيادة العالم ولإرادة ترتيبه، ومجرد الجري وراء المصالح المباشرة وتحقيقها الفوري لا يخلقان رؤية مطلقاً، ولا يبنيان ثقافة مثل ثقافة الأنوار الأوروبية أو ثقافة الأممية الإسلامية أو تنويعات الثقافة الكونفوشوسية حتى. إن التاريخ لم ينته بعد كما يدعي أحد أكثر منظري التاريخ الجديد في الولايات المتحدة الأمريكية، إنه بالعكس من ذلك يتحرك في أماكن أخرى: في الاتحاد الروسي والصين والهند وإيران وفي أوروبا الجديدة. بالتأكيد، ففي كل مكان في العالم تشهد القوى الوسطى، في أوروبا واليابان والهند والصين وكندا وغيرها بداية نهوض حقيقي تحاول أمريكا إحباطه أو استيعابه دون نجاح كبير، وليس مستبعداً على المدى المتوسط أن تتبادل أوروبا الجديدة المتوسعة شرقاً، المواقع مع الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بسبب افتقار هذه الأخيرة للرؤية والقدرة على الاضطلاع بمسؤولياتها بعدالة. فحتى بعض الأعضاء البارزين في الكونغرس الأمريكي من الديمقراطيين والجمهوريين من العقلاء يتهمون الإدارة الأمريكية الحالية، كما السابقة، بالعجز عن قيادة العالم وأن أي محاولة لفرض العملقة القائمة على منطق القوة وجر العالم إلى منازعات ساخنة لإخفاء المشكلات الحقيقية التي خلقها نظام الجشع الرأسمالي العسكري الذي تمت ترجمته كنظام عالمي جديد لن يكون قادراً على ضمان عملقة أمريكا لأن العالم لن يقبل ذلك إلى ما لانهاية، ولا يمكن أن يقود الآخرين من لا يمتلك رؤية حقيقية للعالم المتوازن المستقر المتعاون لتحقيق التنمية والسلام، وذلك لأن مجرد امتلاك القوة العسكرية والاقتصادية لا يخلق رؤية مطلقاً، ومن يريد قيادة العالم يجب أن لا يكون عاجزاً عن تحديد المشكلات وعن حلها، كما لا يمكن أن يكون مصاباً بعمى الألوان. وإذن توجد وراء العواصف المعلنة والغبار الكثيف عوارض للضعف، ويتزايد اليوم عدد الأمريكان الذين يعون ذلك ويعلنون انتهاء العصر الأمريكي الذهبي الذي كانت فيه أمريكا تدعم حق الشعوب في تقرير المصير انطلاقاً من رؤية واضحة للعالم وتقف فيه إلى جانب الحق والقانون الدولي. إن أمريكا اليوم احتلت العراق وأفغانستان بغير وجه حق في عصر الأمم المتحدة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إقناع الشعوب بعدالة الاحتلال وذلك لأن الاحتلال ليس أفضل من الديكتاتورية، بل إنه أفظع أنواع الديكتاتورية، ومحاولة فرض العملقة القائمة على منطق القوة من خلال جر العالم إلى منازعات ساخنة لإخفاء المشكلات الحقيقية التي خلقها نظام الجشع الرأسمالي العسكري الذي تمت ترجمته كنظام عالمي جديد لن يكون قادراً على ضمان عملقة أمريكا لأن العالم سوف يرفض ذلك بقواه الكبيرة والمتوسطة والكبيرة.
التاريخ يتحرك بعيداً.. انتهاء العصر الذهبي لأمريكا
27 مايو 2012