شهد العمل العربي المشترك في السنوات الأخيرة، مستوى بالغ الأهمية من التشاور والتنسيق الرفيع، بهدف الوصول إلى أفضل مسارات التعاون والشراكة وتحقيق التوافق المطلوب في الرؤى والمواقف والقرارات التي تخدم قضايا الأمة العربية، بالشكل الذي يلبي تطلعات الشعوب العربية، ويحقق المصالح العربية المشتركة، ويساهم في إرساء الأمن والاستقرار والتنمية والازدهار لهذا الإقليم الذي يتوسط قلب العالم ويتميز بخصوصية سياسية واستراتيجية واقتصادية وجغرافية شديدة الأهمية.
وفي هذا الإطار تحرص جامعة الدول العربية في اجتماعاتها على مستوى القمة أو المستوى الوزاري واجتماعات اللجان المختلفة على الدفع تجاه تحقيق تلك المستهدفات على كافة الصُعد والمجالات من خلال تفعيل توصيات اللجان النوعية المشتركة ومد جسور التواصل والتعاون مع المنظمات والتحالفات الإقليمية والدولية الأخرى في الموضوعات والقضايا التي تصون سيادة الدول العربية الأعضاء وتحمي مصالحها وأمنها واستقرارها ورفاه شعوبها.
ومن أهم تلك المضامين التي تصدرت بيانات القمم العربية، التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للدول العربية باعتبارها أحد العوامل الرئيسة للاستقرار في المنطقة، ودعم مبادرة السلام العربية لحل الدولتين، إلى جانب التوافق العربي على أهمية التوصل إلى حلول سياسية سلمية للأزمات المتصاعدة التي تعيق مسيرة التنمية والاستقرار في عدد من الدول العربية كالوضع في جمهورية السودان، والجمهورية اليمنية، ودولة ليبيا، والجمهورية العربية السورية والجمهورية اللبنانية. ومن تلك البيانات بيان جدة 2023 الذي شدد أيضًا على الرفض التام لعمل وتواجد الميليشيات والكيانات المسلحة خارج نطاق الدولة، فضلًا عن ضرورة توحيد المواقف في علاقات الدول العربية بمحيطها الإقليمي والدولي.
ومثّل بيان قمة جدة عنوانًا مهمًا للجهود والمساعي العربية في مكافحة الإرهاب، حيث تم توافق الدول الأعضاء على إدانة كل أشكال العمليات الإجرامية التي شنتها المنظمات الإرهابية في الدول العربية والعالم، والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة، مع ضرورة وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية.
وفي هذا الإطار جاءت الكلمة السامية التي تفضل بها حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه أمام الجلسة الافتتاحية للقمة العربية الثانية والثلاثين في جدة، لتقدم أهم القضايا العربية المُلحة التي توافق عليها القادة العرب فيما بعد في ختام قمة جدة، حيث أكد جلالته على ضرورة تكثيف العمل العربي المشترك لاستكمال مسيرة السلام الشامل للوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية وهو حل الدولتين وفق مبادرة السلام العربية، وبما يضمن حق الشعب الفلسطيني الشقيق في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
كما أكد جلالته على ضرورة وقف الاشتباكات المسلحة في السودان وعودة أمنه واستقراره وحفظ حقوقه المشروعة إلى جانب التأكيد على الحقوق المشروعة لمصر والسودان في مياه النيل. ورحب جلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه في كلمته أمام القمة العربية في جدة 2023، بالمساعي العربية الجادة والبوادر المبشرة نحو بلورة نظام إقليمي متجدد ومتوازن، والمتمثلة في استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، واستمرار الهدنة الإنسانية في اليمن والجهود الجادة لحل أزمتها، والعودة الحميدة للجمهورية السورية إلى بيت العرب الكبير.
ولعل من بين أبرز التوصيات التي تضمنها إعلان جدة 2023 ولاقت ترحيباً ودعماً كبيراً من الدول الأعضاء، المبادرة العربية لإنشاء حاضنة فكرية للبحوث والدراسات السياسية والفكرية والأمنية ومجالات الاستدامة والتنمية الاقتصادية، والتي من شأنها احتضان التوجهات والأفكار العربية الفكرية والإبداعية الجديدة لتعزيز التعاون البحثي العربي البيني، وأيضاً مع حاضنات فكرية أجنبية إقليمية ودولية.
وفي هذا الإطار، أعلن مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة "دراسات"، عن تخصيص المنتدى السنوي السابع للمركز، لبحث الخطوات العملية الخاصة بتفعيل توصية "إنشاء حاوية فكرية للبحوث والدراسات في الاستدامة والتنمية الاقتصادية"، والتي صدرت عن القمة العربية السابقة في جدة، لتصبح بذلك مملكة البحرين سباقةً في اتخاذ الخطوات العملية الأولى لتفعيل هذه المبادرة على أرض الواقع والتعريف بأهميتها.
إن مملكة البحرين وهي تتأهب لاستضافة أعمال اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة في دورته الثالثة والثلاثين "قمة البحرين"، تنطلق في مسيرتها من الرؤية الحكيمة والعروبية المخلصة لجلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه ، لتجدد العزم على المضي قدماً في طريق السلام والتنمية والبناء وتسخير الجهود القصوى لاستكمال مسيرة العمل العربي المشترك، بإرادة حرة وتصميم ذاتي وبروح التضامن الجماعي المخلص، تأسيساً للاستقرار والرخاء والوئام الذي تستحق أن تنعم به الشعوب العربية، وسبيلها في تحقيق ذلك نهج السلام العادل والشامل الذي لا بديل له، وترسيخ ثقافة العيش المشترك والتسامح مع الحفاظ على الهوية والثقافة العربية ضماناً لتحقيق الأمن والاستقرار والمصالح الحيوية لازدهار الدول العربية ودول المنطقة دون استثناء.