تبعد مملكة البحرين عن جمهورية الصين أكثر من خمسة آلاف كيلومترا، وتربطهما علاقات دبلوماسية منذ حوالي 35 سنة، حيث تعتبر البحرين في الرؤية الاستراتيجية الصينية، دولة صديقة في منطقة الخليج والعالم العربي، نظراً إلى موقعها الحيوي والاستراتيجي، فضلاً على كونها شريكاً اقتصادياً مستقبلياً، في ظل الاقتراب الصيني إلى المنطقة، وعلى الرغم من هذه المسافة الشاسعة بين البلدين، فإن الدبلوماسية والمصالح الاستراتيجية بين الجانبين قربت المسافات إلى حد التطابق وتذويب الجغرافيا!شكّل حضور جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة منتدى التعاون العربي الصيني بنسخته العشرين صورة جيوستراتيجية، نظر إليها المراقبون على أنها نقلة بحرينية ذكية في الاتجاه الصحيح، بأبعادها على كافة المستويات، بينما كانت رؤية الصين لهذه الزيارة أكثر من استراتيجية، لمعرفتها بأهمية مملكة البحرين، وحفظها لتاريخ هذه العلاقة المتينة.ومن اللافت اتساع رقعة الحضور العربي في منتدى التعاون الصيني العربي في بكين، إذ تقدم هذا الحضور، جلالة الملك «حمد بن عيسى آل خليفة»، ولا سيما أن مملكة البحرين اليوم تترأس القمة العربية حالياً، ما يدل على تقدم مملكة البحرين المشهد السياسي والدولي في ظل جلالة الملك، الذي كانت رسالته في القمة العربية رسالة سلام في المنطقة والعالم.وكان العنوان الكبير لهذه الزيارة التاريخية التوافق والتطابق في العلاقة الاستراتيجية بين البحرين والصين، التي جاءت في مرحلة حيوية وحساسة من ظروف العالم المتغير، رسالة أن البحرين التي ترتكز سياستها على الأمن والاستقرار والتنمية في خطوط متوازية، شريك على المستويين الإقليمي والدولي، وما العلاقة مع الصين إلا تأكيد لأهمية المملكة من النواحي السياسية والاقتصادية.ولعل البيان المشترك بين البلدين ببنوده الثمانية انعكاس حقيقي وجاد لتطوير هذه العلاقة إلى المستوى الاستراتيجي، بعد 35 عاماً على تأسيس العلاقات بين البلدين، وهنا لا بد من الإشارة إلى الطموحات الاقتصادية لمملكة البحرين وفق رؤية 2030، ورغبتها في توسيع الشراكات الاقتصادية، وعلى رأسها الصين التي مازالت الأرقام الاقتصادية تشير إلى أنها القوة الصاعدة في اقتصادات العالم.في قراءة سريعة للبيان المشترك بين المنامة وبكين يمكن القول إنه بيان متكامل يغطي كل الجوانب بين البلدين، بدءاً من تبادل الدعم الثابت في القضايا المتعلقة بالمصالح الجوهرية للجانب الآخر، وصولاً إلى الحفاظ على السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، لخدمة المصالح الأساسية وطويلة الأمد لشعوب دول المنطقة، مروراً بالالتزام بتعددية الأطراف الحقيقية، وتوسيع التواصل بين الأجهزة الحكومية والبرلمانية وبين المقاطعات والمدن للبلدين، إضافة إلى التعاون الصيني البحريني في إطار الحزام والطريق، لتوسيع نطاق التعاون بينهما في مجالات البنية التحتية والاقتصاد والتجارة والاستثمار والمالية والطاقة الجديدة والتكنولوجيا.ما سبق يوحي بتوجه طويل الأمد بين البلدين ومصالح متداخلة إلى حدود بعيدة، تؤسس لعلاقة مفتوحة الأبواب، ما يظهر جلياً في إرادة جلالة الملك والرئيس الصيني، خلال اللقاء الأخير وطبيعة اللقاءات، ووفد مملكة البحرين الذي يزور الصين.من الواضح أننا أمام خارطة طريق لعلاقات مستدامة على المستوى الاستراتيجي، من شأنها أن تنعكس بالدرجة الأولى على مملكة البحرين بحكم موقعها الحيوي في المنطقة، ودورها السياسي في الحفاظ على السلم الإقليمي، فضلاً على طموحات التنمية على المستوى الداخلي، وهو الأمر الذي يوليه جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة كل الاهتمام للنهوض بالمستوى الاقتصادي لأبناء البحرين.إن طريق رؤية البحرين 2030 يتطلب نسج أقوى العلاقات الاستراتيجية مع دول العالم، وخصوصاً الدول ذات الحجم الاقتصادي مثل الصين، وحضور جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة منتدى التعاون الصيني العربي بدعوة من الرئيس الصيني شي جين بينغ، مؤشر على المسار الجاد والعملي لرؤية مملكة البحرين التي تتطلع إلى مستوى جديد من العلاقات الدولية والاستراتيجية.بعد البيان المشترك بين مملكة البحرين وجمهورية الصين الشعبية، تصدرت «العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، عناوين الصحف العربية والصينية، العلاقات؛ فالقناة العربية لشبكة تلفزيون الصين الدولية CGTN احتفت بزيارة جلالة الملك وأسهبت في احتفاء رئيس جمهورية الصين شي جين بينغ بجلالة الملك، إذ قال الرئيس الصيني بحضور الملك في قاعة الشعب في بكين إن مملكة البحرين صديق حميم للصين في منطقة الخليج، وفي السنوات الأخيرة حافظت العلاقات الصينية البحرينية على تنمية مطردة وصحية، ما يجلب منافع ملموسة للشعبين، وعندما ترد هذه الكلمات على لسان أعلى رأس في جمهورية الصين، يعني ذلك أن توجه البحرين إلى دولة بحجم بكين وتنمية العلاقات خطوة من الذكاء الاستراتيجي، تحمل بذور علاقة نوعية واستراتيجية، وهنا حديث آخر عن النقلة الاستراتيجية في العلاقات بين البلدين.لا يخفى على العارفين بالعلاقات الدولية والمصطلحات السياسية أن مصطلح العلاقات الاستراتيجية له أبعاد عميقة وطويلة الأمد في العلاقات المشتركة، وهو ناتج عن دراسة جيوسياسية دقيقة لواقع البلدين في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية واختيار التوجهات السياسية، ما يعني أن المرحلة المقبلة هي مرحلة العمل وتفعيل هذه الشراكة والعلاقة البينية على أعلى المستويات، وهو توجه مملكة البحرين في نسج العلاقات الاستراتيجية في الشرق والغرب وترسيخ عالم متعدد القطبية، ولعل دور البحرين الخليجي والعربي والإقليمي، ساهم في وصف هذه العلاقة بالعلاقة الاستراتيجية.وإذا أردنا على سبيل المثال الحديث عن الميزان التجاري بين البحرين والصين، فيقدر الخبراء في الاقتصاد أن حجم التبادل غير النفطي يصل إلى 2.4 مليار دولار وفق إحصائية عام 2022، بينما يصل إجمالي التبادل التجاري العربي الصيني إلى 400 مليار دولار، وهو رقم كبير بالنسبة للبحرين بالمقارنة بعدد السكان والجغرافية، ولعل هذا الرقم يشير إلى حجم العلاقة الصينية مع مملكة البحرين، بالإضافة إلى إبرام مذكرة تفاهم بين وزارة المالية والاقتصاد الوطني بمملكة البحرين معالي الشيخ سلمان بن خليفة آل خليفة، ووزارة التجارة بجمهورية الصين لإنشاء مجموعة عمل للاستثمار والتعاون الاقتصادي، وتوقيع مذكرة تفاهم بين «ممتلكات» ومؤسسة الاستثمار الصينية لاستكشاف فرص الاستثمار المشتركة، وهي دفعة عملية وواقعية للعلاقات بين البلدين، سيكون لها نتائج ليست ببعيدة وخصوصاً على اقتصاد مملكة البحرين.زيارة جلالة الملك للصين لم تقتصر على لقاء الرئيس الصيني فقط، بل التقى أيضاً رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ، الذي أكد أن الصين تعتز بصداقتها التقليدية مع البحرين، وأنها مستعدة للعمل مع البحرين لاتباع التوجيه الاستراتيجي المهم من البلدين، وتوطيد الأساس السياسي للبلدين على نحو متواصل، وتحقيق المنفعة المتبادلة والنتائج المربحة للطرفين.إذاً نحن أمام مرحلة جديدة من تنويع العلاقات الدولية، ومرحلة حيوية على المستويات السياسي والاقتصادي والأمني، هذه المرحلة تقوم على الشراكة والندية والمصالح المشتركة، إذ طالما تضمنت البيانات بين البلدين مصالح الشعب البحريني الذي يوليه جلالة الملك بالغ الاهتمام.بكل تأكيد ما قبل زيارة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ليس كما بعدها، نظراً إلى حجم التفاهمات بين البلدين على المرحلة المقبلة، وكذلك الانتقال إلى المستوى الاستراتيجي في العلاقة، وهذا يفرض مرحلة جديدة من العلاقات العميقة التي تنعكس إيجاباً على البلدين، ولا سيما على المستوى الاقتصادي لمملكة البحرين، ذلك أن قطار البحرين السياسي والاقتصادي بدأ بالتحرك في أكثر من اتجاه شرقاً وغرباً، ليصل العمق الاستراتيجي لمملكة البحرين إلى بكين.عبدالله الغضوي* كاتب وصحفي