طالب سعدون
لعل بعض القراء يظن أن الروايات هي لعبة من لعب الخيال نتسلى بها ثم تنسى كأي لهو آخر. وهذا قطعاً ليس صحيحاً؛ فالرواية بين أمرين إما أن تعكس الواقع وتؤرخ له من خلال أسلوب فني بديع، وإما أن تستفز الخيال بالخيال، ما يؤدي إلى صعود المخيلة على سلم التأمل ثم الإبداع، وهي في الحالين تحمل من المعلومات ما لاغنى عنه في أسلوب شيق يدع تلك المعلومات في العقل الباطن، وإلا فهي خزين مباشر للعقل يستوحي منها الإنسان كثيراً من جوانب ثقافته.أقول ذلك بمناسبة صدور رواية «رجل يغادر هيكله» للروائي د. صبري حمد خاطر، وهي رواية متميزة فيما اشتملت عليه من شكل ومضمون؛ إذ لفت انتباهي غلاف الرواية من الوهلة الأولى في تصميمه وألوانه وأنا أتأمله بعمق، إذ أوحى لي بأن الرجل وهو «غير واضح المعالم» في حالة دوامة لكنه يأبى أن يسقط على الأرض، إذ تسنده يداه لكنها في النهاية دوامة مبصرة، وإن كانت بعين واحدة يرى فيها العالم، وترك لنا أمر اكتشاف النهاية ومصير أبطالها، ومتابعة فصولها ونهايتها، التي كتبها المؤلف بنفسه.وبلمحة سريعة للتصميم الذي عملته زينب مهدي حسن يبدو أنه يتوافق مع أحداث الرواية وأبطالها، وربما يتوافق مع قراءتي لأسلوب المؤلف في هذه الرواية.«رجل يغادر هيكله» رواية طويلة «416 صفحة» أصدرتها حديثاً دائرة الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة العراقية بطبعة أنيقة ضمن سلسلة سرد.وهي رواية من وحي الخيال كما يقول مؤلفها وأي تشابه بين شخص فيها وشخص في الواقع ليس مقصوداً، وإنما هو من قبيل الصدفة التي لا يكون الكاتب مسؤولاً عنها، إلا أن ذلك لا يعني أن الكاتب لم يستوح الأحداث من الواقع لأن الخيال ليس مما ينزل من السماء وإنما هو أيضاً من وحي الواقع.. أي الخيال نتاج إنسان وليس وحياً أو إلهاماً.. ميزته أنه يملك قدرة عالية على التصور والإبداع يلخصها الكاتب والصحفي الأرجنتيني (رودولف أويكن) بعبارة موجزة (تنشط في داخلنا قدرة فوق الإنسانية تحررنا من الحدود الضيقة لوجودنا وحياتنا الفردية الخاصة وتنفخ فينا روحاً جديدة وتغير من علاقتنا مع ًبناء جلدتنا).محاولة موفقة وقدرة إبداعية من الدكتور صبري في المزج بين الواقعية والخيال بأسلوب سردي في تتالي الأحداث بحيث يصعب التفريق بينهما (إذ لا يوجد فرق بين الخيال والحقيقة حين يتحول كلاهما إلى ممثل على مسرح عقلي) على حد تعبيره.وأرى أن هذا العمل نقلة نوعية ومحاولة مهمة وجريئة لتنامي حركة السرد وتطوره، ولذلك أتوقع أن يحظى بدراسة وافية ورصد علمي من النقاد لمدى مطابقة النص الواقعي في تجلياته ومع الخيال في تألقه ومع فكرة التجديد التي اندست في فصول الرواية التي تبدو في البداية متعاقبة، إذ يبدأ الفصل الأول برواية محمد علي ثم يعقبه فصل برواية ميمونة ثم يعقبه فصل برواية نادر مجيد، وهكذا تتعاقب الفصول، لكن تدفق الأفكار أحياناً يجعلها تتجاوز حدود الشكل، فلم يقيد الراوي الأفكار بالشكل، بل آثر حرية الأفكار حيث تكون، وقد يتحدث الراوي بنفسه عندما يجد ذلك مناسباً.الراوي يسرد الأحداث بأسلوب يمزج بين الواقعية والخيال. يمزج بين أحداث خاضها أناس واقعيون أو كائنات في خيال المؤلف لتحقيق هدفه في إيصال رسالته إلى المتلقي ورؤيته للحياة وتتيح له فرصة مناسبة للتأمل. أي بمعنى أنها ليست واقعية (وثائقية) ولا خيالية صرفاً. وهنا يتجلى إبداع الكاتب وتتضح رؤيته بصورة غير مباشرة للقارئ، وربما تفيد المتلقي أو يخضعها للتجربة أو التأمل.ومن ميزات هذا العمل لغته البلاغية الجميلة في إيصال رسالة الراوي -المؤلف- بالدعوة إلى أن تستمر الحياة مهما واجه الإنسان من مصاعب وعقبات. أي بعبارة أخرى انتصار الإنسان بإنسانيته وهي اللغة المشتركة بين الجميع. وكل ذلك يجعل هذا العمل الروائي جديراً بأن يحظى بتغطية نقدية واسعة وجدية لبيان التطور في الأسلوب السردي وطريقة عرض الأحداث والرواية بشكل عام.وفي كل الأحوال تعد الرواية بمختلف أشكالها من الأعمال الأدبية الجميلة التي تعرف القارئ على قضايا لم يعرفها من قبل بأفكارها وليس بأسلوبها فقط؛ فقد تحمل الرواية من الأفكار ما يعجز مفكرون عن إيصاله بطرقهم الطبيعية، كما أنها تعزز الجانب الإبداعي لدى المتلقي، ويظهر ذلك في تفاعله مع أحداثها وقد تصل به الحالة إلى إن يدخل في أعماقها وأحداثها وكأنه يمر بالتجربة ذاتها.ومن هنا تظهر قيمة العمل الروائي أنه لا ينتهي بانتهاء قراءة الرواية، بل يبقى مخزوناً في الذاكرة على مر الزمن، وقد ينعكس بصورة لا إرادية على تصرف القارئ. فكم من الأفكار والعبارات من روايات تحولت إلى أفلام لا تزال تتردد على الألسن إلى يومنا هذا.رواية رجل يغادر هيكله للدكتور صبري حمد خاطر تعد إضافة نوعية إلى الرواية العربية وفي تطور أسلوب السرد الروائي وأثره ودور الشباب في هذا الفن عموماً.وأخيراً فإن الرواية تحمل في طياتها كثيراً من الحب وتذكرني بمقولة الراحل الكبير نجيب محفوظ إنه «لا تخبروني عمن يكرهني أو يتكلم عني، اتركوني أحب الجميع وأظن أن الجميع يحبني».* كاتب وصحفي عراقي
لعل بعض القراء يظن أن الروايات هي لعبة من لعب الخيال نتسلى بها ثم تنسى كأي لهو آخر. وهذا قطعاً ليس صحيحاً؛ فالرواية بين أمرين إما أن تعكس الواقع وتؤرخ له من خلال أسلوب فني بديع، وإما أن تستفز الخيال بالخيال، ما يؤدي إلى صعود المخيلة على سلم التأمل ثم الإبداع، وهي في الحالين تحمل من المعلومات ما لاغنى عنه في أسلوب شيق يدع تلك المعلومات في العقل الباطن، وإلا فهي خزين مباشر للعقل يستوحي منها الإنسان كثيراً من جوانب ثقافته.أقول ذلك بمناسبة صدور رواية «رجل يغادر هيكله» للروائي د. صبري حمد خاطر، وهي رواية متميزة فيما اشتملت عليه من شكل ومضمون؛ إذ لفت انتباهي غلاف الرواية من الوهلة الأولى في تصميمه وألوانه وأنا أتأمله بعمق، إذ أوحى لي بأن الرجل وهو «غير واضح المعالم» في حالة دوامة لكنه يأبى أن يسقط على الأرض، إذ تسنده يداه لكنها في النهاية دوامة مبصرة، وإن كانت بعين واحدة يرى فيها العالم، وترك لنا أمر اكتشاف النهاية ومصير أبطالها، ومتابعة فصولها ونهايتها، التي كتبها المؤلف بنفسه.وبلمحة سريعة للتصميم الذي عملته زينب مهدي حسن يبدو أنه يتوافق مع أحداث الرواية وأبطالها، وربما يتوافق مع قراءتي لأسلوب المؤلف في هذه الرواية.«رجل يغادر هيكله» رواية طويلة «416 صفحة» أصدرتها حديثاً دائرة الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة العراقية بطبعة أنيقة ضمن سلسلة سرد.وهي رواية من وحي الخيال كما يقول مؤلفها وأي تشابه بين شخص فيها وشخص في الواقع ليس مقصوداً، وإنما هو من قبيل الصدفة التي لا يكون الكاتب مسؤولاً عنها، إلا أن ذلك لا يعني أن الكاتب لم يستوح الأحداث من الواقع لأن الخيال ليس مما ينزل من السماء وإنما هو أيضاً من وحي الواقع.. أي الخيال نتاج إنسان وليس وحياً أو إلهاماً.. ميزته أنه يملك قدرة عالية على التصور والإبداع يلخصها الكاتب والصحفي الأرجنتيني (رودولف أويكن) بعبارة موجزة (تنشط في داخلنا قدرة فوق الإنسانية تحررنا من الحدود الضيقة لوجودنا وحياتنا الفردية الخاصة وتنفخ فينا روحاً جديدة وتغير من علاقتنا مع ًبناء جلدتنا).محاولة موفقة وقدرة إبداعية من الدكتور صبري في المزج بين الواقعية والخيال بأسلوب سردي في تتالي الأحداث بحيث يصعب التفريق بينهما (إذ لا يوجد فرق بين الخيال والحقيقة حين يتحول كلاهما إلى ممثل على مسرح عقلي) على حد تعبيره.وأرى أن هذا العمل نقلة نوعية ومحاولة مهمة وجريئة لتنامي حركة السرد وتطوره، ولذلك أتوقع أن يحظى بدراسة وافية ورصد علمي من النقاد لمدى مطابقة النص الواقعي في تجلياته ومع الخيال في تألقه ومع فكرة التجديد التي اندست في فصول الرواية التي تبدو في البداية متعاقبة، إذ يبدأ الفصل الأول برواية محمد علي ثم يعقبه فصل برواية ميمونة ثم يعقبه فصل برواية نادر مجيد، وهكذا تتعاقب الفصول، لكن تدفق الأفكار أحياناً يجعلها تتجاوز حدود الشكل، فلم يقيد الراوي الأفكار بالشكل، بل آثر حرية الأفكار حيث تكون، وقد يتحدث الراوي بنفسه عندما يجد ذلك مناسباً.الراوي يسرد الأحداث بأسلوب يمزج بين الواقعية والخيال. يمزج بين أحداث خاضها أناس واقعيون أو كائنات في خيال المؤلف لتحقيق هدفه في إيصال رسالته إلى المتلقي ورؤيته للحياة وتتيح له فرصة مناسبة للتأمل. أي بمعنى أنها ليست واقعية (وثائقية) ولا خيالية صرفاً. وهنا يتجلى إبداع الكاتب وتتضح رؤيته بصورة غير مباشرة للقارئ، وربما تفيد المتلقي أو يخضعها للتجربة أو التأمل.ومن ميزات هذا العمل لغته البلاغية الجميلة في إيصال رسالة الراوي -المؤلف- بالدعوة إلى أن تستمر الحياة مهما واجه الإنسان من مصاعب وعقبات. أي بعبارة أخرى انتصار الإنسان بإنسانيته وهي اللغة المشتركة بين الجميع. وكل ذلك يجعل هذا العمل الروائي جديراً بأن يحظى بتغطية نقدية واسعة وجدية لبيان التطور في الأسلوب السردي وطريقة عرض الأحداث والرواية بشكل عام.وفي كل الأحوال تعد الرواية بمختلف أشكالها من الأعمال الأدبية الجميلة التي تعرف القارئ على قضايا لم يعرفها من قبل بأفكارها وليس بأسلوبها فقط؛ فقد تحمل الرواية من الأفكار ما يعجز مفكرون عن إيصاله بطرقهم الطبيعية، كما أنها تعزز الجانب الإبداعي لدى المتلقي، ويظهر ذلك في تفاعله مع أحداثها وقد تصل به الحالة إلى إن يدخل في أعماقها وأحداثها وكأنه يمر بالتجربة ذاتها.ومن هنا تظهر قيمة العمل الروائي أنه لا ينتهي بانتهاء قراءة الرواية، بل يبقى مخزوناً في الذاكرة على مر الزمن، وقد ينعكس بصورة لا إرادية على تصرف القارئ. فكم من الأفكار والعبارات من روايات تحولت إلى أفلام لا تزال تتردد على الألسن إلى يومنا هذا.رواية رجل يغادر هيكله للدكتور صبري حمد خاطر تعد إضافة نوعية إلى الرواية العربية وفي تطور أسلوب السرد الروائي وأثره ودور الشباب في هذا الفن عموماً.وأخيراً فإن الرواية تحمل في طياتها كثيراً من الحب وتذكرني بمقولة الراحل الكبير نجيب محفوظ إنه «لا تخبروني عمن يكرهني أو يتكلم عني، اتركوني أحب الجميع وأظن أن الجميع يحبني».* كاتب وصحفي عراقي