"دلمون أرض مقدسةدلمون أرض طهورعلى أرض دلمون المقدسة الطهورلا ينعق فيها الغرابولا يفترس الأسد الحمل....دع آبار دلمونتصبح عيون المياه العذبةدع حقول دلمونتنتج القمح والحبوبدع مدينة دلمونتصبح ميناء للعالم كله"بهذه الكلمات خُطت ملحمة جلجامش، تلك الملحمة السومرية المكتوبة بخط مسماري على 12 لوحا طينيا حيث اكتشفت لأول مرة عام 1853م.فدلمون.. جزيرة الآلهة والأرض المقدسة التي قصدها جلجامش بحثا عن زهرة الخلود، فمن أعلى تلال تلك الجزيرة عند شواطئ الخليج وجدت عاصمة دلمون، وبين الرمل والبحر تشكلت الهوية الدلمونية لتكشف عن حضارة زاخرة بالمكنونات الأثرية فبين آثار فخارية ومعدنية وكتابات وأسوار ومبانٍ ثمة آثار قابعة أسفل التراب.مقومات الحياة الدلمونية وجدت في هذه البقعة.. حيث قلعة البحرين تتوسط المزارع الخضراء أعلى الهضبة المطلة على الخليج العربي، وبين الأرض والبحر ازدهرت منابع الحياة التي زادت من فرادة الموقع وجماله، فدلمون كانت ولا تزال أرضاً مهمة، فالبقايا الأثرية تفتح موسوعة تاريخية ابتداء من دلمون وتايلوس والفترة الإسلامية.فما بين قلعة تطل بهيبتها على سواحل الخليج العربي وأخرى أعلى التل.. تتضح المعالم التاريخية لهذا الموقع الذي أدرج على قائمة التّراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للثّقافة والتربية والعلوم (اليونيسكو) عام 2007م، فهذا الموقع يحتل ما نسبته 39% من المجموع الكلي لزيارات المواقع التراثية التابعة لهيئة البحرين للثقافة والآثار، كما تزداد أهمية الموقع بسبب وجود مدينة كاملة أسفل القلعة تمثل أبنية ذات شأن، فيها الأعمدة والأحجار والخنادق، والتي تعتبر في مجملها مركزا للحركة التجارية حيث كانت تنطلق منها السفن بحمولات تجارية مختلفة.الدكتور سلمان أحمد المحاري مدير الآثار والمتاحف بهيئة البحرين للثقافة والآثار جال بصحبة فريق وكالة أنباء البحرين في أرجاء الموقع التراثي، وكشف عن زوايا جديدة في الموقع تبين العمق التاريخي الذي يمتاز به، فعلى هذه الأرض قلعة ساحلية قديمة يفوق عمرها القلعة الثانية البارزة أعلى الهضبة، وحسب وصفه إن هذا الموقع يختزل قيمة تراثية فريدة، فالتنقيبات التي بدأت في 1953، واستمرت إلى الآن أفضت إلى اكتشاف ما يقدر بــ25% فقط من الموقع، وتحوي كنوزاً تمثل جميع الفترات والحقب التاريخية، ومن المؤكد وجود رُقَمٌ طينية وكتابات ومعلومات لا تزال مدفونة ستكتشف مستقبلاً.وعن علاقة الموقع بالبحر قال د. المحاري عند ذكر دلمون لا بد وأن يذكر البحر، من هنا حافظت هيئة البحرين للثقافة والآثار على علاقة الموقع بالبحر، إذ تم إيجاد ممر بصري يمتد بطول 7 كيلو متر إلى داخل البحر، يوفر علاقة مباشرة بين القلعة والبحر، فهذا الموقع يمثل كتابا مفتوحا لتاريخ المنطقة، ومن خلاله يتضح وجود 6 فترات تاريخية يطلق عليها اصطلاحا 6 مدن تاريخية، أولها دلمون المبكرة والتي تنقسم إلى مدينتين، ومن بعدها دلمون المتوسطة والمتأخرة، وفترة تايلوس، ثم الفترة الإسلامية، تتراكم آثارها فوق بعضها البعض في مساحة التل التي تبلغ 300 في 600 متر، أو 16 هكتار، وفيها تكونت ملامح النشاط البشري الذي نتج عنه طبقات أثرية، فجميع من استوطن الموقع بنى على بناء من سبقه.ويشير المحاري إلى أن هذا الموقع التراثي هو موقع متكامل يبين ملامح الحياة الدلمونية من مزارع مصاحبة موجودة في محيط القلعة، وبيوت قديمة تقدر بـ28 بيتاً يراد تحويلها إلى بيوت تعكس القيمة الأثرية للمنطقة موزعة على 28 عائلة هم ملاك البيوت الأصلية، منها بيت السلال وآخر للضيافة وبيوت حرفية ستستكمل بالتعاون مع ملاكها، وأيضا وجود مصنع بالجوار لماء (اللقاح والمرقدوش) التي تعتبر من الأشربة العلاجية العشبية التراثية، كما أشار المحاري إلى أهمية تعزيز ثقافة البحر، ليس من خلال تطوير (الفرضة) فقط، بل بتوضيح وجود ثلاثة ينابيع عذبة بين مياه البحر (كواكب)، حيث يلتقي الماء الحلو بالماء المالح، والذي يعد أحد تفاسير اسم البحرين.وعن عدد زوار الموقع قال د. المحاري أنه الأعلى في عدد الزوار على مستوى البحرين من حيث المواقع الأثرية والتراثية، ففي عام 2023 تجاوز عدد الزوار 415 ألف زائر، كما بلغ عدد زوار هذا العام للموقع 121 ألف و 924 شخص حتى اليوم، وبلغ إجمالي عدد الزوار من عام 2009 حتى عام 2023 أكثر من 2 مليون و400 ألف زائر.وأوضح د. المحاري وجود 500 قطعة أثرية في متحف قلعة البحرين الذي افتتح في فبراير 2008م، وقال إن تاريخ الموقع يعود إلى ألفين وثلاثمائة قبل الميلاد، ويدل على وجود استيطان بشري استمر لأكثر من 4 آلاف و300 سنة بلا توقف، نتج عنه بقايا أثرية تجارية ومدنية وعسكرية ودينية وثقافية، بالإضافة إلى لغة أثرية تؤكد علاقتها مع حضارات الجوار مثل بلاد الرافدين وبلاد السند أو بلاد فارس أو شبه الجزيرة العربية وحضارة مجان.. ومع بدء أقدم التنقيبات عام 1953 – 1954 أثبت وجود الاستيطان حول قلعة البحرين.وقال د. المحاري إن موقع قلعة البحرين قد توجهت له العديد من الدراسات التاريخية والأثرية التي تتناول آثار البحرين، موضحاً أن هناك 8 مطبوعات نشرت عن هذا المكان بلغات مختلفة منها العربية والفرنسية والإنجليزية، إلى جانب عدد من الأبحاث والدراسات التي ارتبطت بالقلعة، إضافة إلى الأفلام الوثائقية والفعاليات الثقافية والاجتماعية.فيما وصفت السيدة ميلاني مونزنر المستشار الأثري في هيئة الثقافة والآثار قلعة البحرين بالموقع ذا الأهمية التاريخية الهائلة، وقالت: منذ نشأته في حوالي عام 2300 قبل الميلاد كعاصمة قديمة وميناء لدلمون، لعب الموقع دورًا محوريًا في التبادلات التجارية والثقافية في المنطقة الأوسع، حيث كان يربط في السابق وادي السند وعمان وبلاد ما بين النهرين وحتى الصين في نهاية الأمر، وعرف الموقع أكثر من 4000 عام من الاستيطان البشري، مع العديد من الاكتشافات الأثرية الرائعة مثل واحدة من أقدم المدابس في العالم (عصارة تستخلص من التمر)، وتوفر هذه الاكتشافات رؤى حول الممارسات القديمة والحياة اليومية التي ازدهرت هنا ذات يوم.وزادت في وصف الأهمية بتوضيح ما تزدهر به من بساتين النخيل والحدائق الزراعية المجاورة، فضلاً عن بقايا برج بحري وقناة وصول بحرية قديمة بعيدة عن الشاطئ، تنتمي إلى الموقع، مما يخلق معًا منظرًا تاريخيًا استثنائيًا، وقالت إن إدراج قلعة البحرين كأول موقع للتراث العالمي لليونسكو في البحرين يؤكد تفردها وأهميتها على المستوى الدولي.ويقول رئيس جمعية تاريخ وآثار البحرين د. عيسى أمين لو أخذنا قطاعا في التل، سنجد آثارا مختلفة تعود إلى كل من حضارة دلمون وتايلوس والفترة الإسلامية والفترة البرتغالية، فهذه القلعة استخدمها البرتغاليون للسيطرة على هرمز خلال حكمهم، ولكن تتمثل الأهمية الكبرى فيه بوجود المدن الدلمونية، وما وجد فيها من قطع أثرية فخارية وعملات وآثار تدل على هذه الحقبة، فمثلاً دلت الجرار والرقع الأثرية والفخار والكتابات على فترة دلمون الأولية والمتأخرة، أما العملات مثل عملات الإسكندر فتؤكد الفترة الهلنستية التي تعود إلى 300 عام قبل الميلاد، وبعدها أتت الفترة المسيحية ومن بعدها الإسلامية والبرتغالية، وهو ما يبين التطور الرأسي للموقع.وتطبيقا لفكرة الإرث الرأسي أو الطبقات الأثرية، أوضح د أمين فكرة بناء متحف موقع قلعة البحرين الذي جاء بطريقة رأسية تبين الطبقات الموجودة حسب الفترات، وهو تصميم مستوحى من الحقب التاريخية، وقال إن اعتراف منظمة اليونسكو بالموقع أكسبه أهمية عالمية، كما أصبح استخدامه لأغراض عمرانية أمرا محظوراً، فقلعة البحرين هي عاصمة وميناء حضارة دلمون ورد اسمها في الخطوط المسمارية في الحضارة السومرية والبابلية، وكان هناك عملية بحث عن موطن الهدايا والتمور التي كانت تصل لمعابد بلاد ما بين النهرين، إلى أن قام عالم الآثار جيفري بيبي في الخمسينات بالكشف عنها في أول بعثة تنقيبية في منطقة الخليج العربي، حيث تم اكتشاف دلمون وامتداداتها التي هي موطن الآلهة والمعابد، لافتاً إلى أهمية ودلالات تحول الموقع إلى موقع عالمي مهم إذ يعد وجهة للزوار والسياح.أما الباحث في التراث السيد خالد السندي فأشار إلى أهمية الموقع المتمثلة في كشفه لحل لغز تاريخي حير العلماء لسنوات طويلة، يتعلق بموقع حضارة دلمون التي كانت تذكر في الوثائق السومرية والآكادية دون العلم بمكان وجودها، من هنا جاءت حملة البحث عن دلمون بإشراف متحف ازجار في الدنمارك، وجلوب ومساعدة وجيفري بيبي عام 1953، ففي ذاك الوقت لم يكن هناك متحف وما شابه، بل كان هناك اهتماماً مباشرا من صاحب العظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة رحمه الله والذي وجه لبدء العمل في التنقيب للبحث عن دلمون.وقال السندي جاءت البعثة الدنماركية لتضع البحرين في مخططها كمرتكز للعمل، فدلمون الممتدة من الكويت شمالا إلى شرق السعودية وقطر وجزء من الإمارات، كانت البحرين بموقع القلعة المطل على الخليج موقعا مناسبا للتنقيب فيه، وفيه وجد الميناء الدلموني الذي تحدثت عنه المخطوطات بــ"سفن من الخشب أتت من أرض دلمون".القلعة بموقعها الاستراتيجي تمتلك مقومات الفرادة، فما زالت تجسد علاقة الإنسان بالمكان كونها امتداد لعملية استيطان الأجيال المختلفة لهذه البقعة الأثرية الهامة، المنفتحة التي عكست ثقافة وهوية الإنسان البحريني الذي يرحب بزواره بروحه السمحة والمضيافة.