الرأي

تدَّبر الحياة

استوقفتني معاني كلمة «التدبّر»، والتي غالباً ما تمر أمام أنظارنا دون أن نستشعر معانيها ونقف أمام كل نواحي الحياة ونحن نتدبر ملامحها وكل جزئياتها. فإنما التدبر هو الوقوف والتبصر على كل معاني المواقف والأحداث التي تمر في مسير حياة المرء، واستنباط العظات والدروس والنهوض من جديد في مواطن العطاء والنجاح. التدبّر بألا تمر أمام ناظريك بعض الكلمات دون تمحيص، أو بعض الشواهد الحياتية دون استنباط لمواطن الانتفاع والاتعاظ، وأن يكون يومنا خيراً من أمسنا، وغدنا خيراً من يومنا.
ومع الحديث عن التدبر يأتي أعظم تدبّر لآيات كتاب الله الكريم، يقول المولى الكريم: «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها». المعنى هنا خطير لو تأملنا هذه الكلمات ومعنى الآية الكريمة، وتدبربنا «أهمية تدبّر القرآن الكريم». تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها». فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله تعالى يفتحها أو يُفرجها». يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: «وهذا يوجب للمؤمن اللجوء إلى الله، والضراعة إليه، وأن يفتح على قلبه، وأن يزيل عنه قفله، وأن يشرح صدره للحق حتى يفهم كتاب الله وحتى يعقله وحتى يوفقه للتدبر والتعقل». مجرد أنك تتحدث عن قراءة كتاب الله الكريم، فهو التدبّر بعينه، وهي الحقيقة التي يجب أن نستوعبها بأننا هجرنا كتاب الله الكريم تلاوة وتدبراً وتعقلاً، وصارت جلّ الأوقات نقضيها في هوامش الحياة، وبخاصة أمام شاشات الحواسيب والهواتف الذكية، وإن أقبلنا على قراءة القرآن فسرعان ما طوينا صفحاته وأعدناه إلى الرف. يجب أن نعي جيداً أن هناك أقفالاً على قلوبنا، يستوجب معها الاستغفار والاستعانة بالله عز وجل حتى يفتحها ويعيننا على التعبد لله تعالى بقراءة القرآن الكريم وتدبّره، والنظر في الآيات وتأمل معانيها. عندما تقيس الوقت الذي تقضيه في قراءة ولو جزء واحد من القرآن لا نقول ساعة، بل 30 دقيقة. تجد أنه قصير جداً مع ساعات اليوم.. بالفعل إنه واقع أليم، يستلزم أن نراجع معه حساباتنا قبل أن يغلق ملف الأعمال! القرآن أمان وطمأنينة وسعادة وتفريج للهموم وشفاء لما في الصدور «وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين».
ورد في كتاب «أول مرة أتدبر القرآن»: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكر). أول ما تقع عينك على هذه الآية الكريمة، فاعلم أن جميع معاني اليُسر والسهولة التي وقعت في ذهنك تشمله هذه الآية: سهولة ويسر في التلاوة، وفي الحفظ، وفي الفهم، وفي التطبيق والعمل. فقد فرَّغ ذهنك، وأقبل بقلبك، وألقِ مشاغلك خلف ظهرك، واقرأ مُستشعراً عظمة وجلال الكلام، وعظمة وجلال المُتكلم، أمعن فيه النظر، وأعد الآية ولا تمل ولا تضجر، سيفتح الله لك، وسيفيض عليك، وسيعطيك فوق ما تريد».
أما تدبّر صدق المحبة في العلاقات والوفاء في التعامل، فهي لوحدها ومضات هامة في حياتك، فتحتاج أن تتدبّر وتُمحّص المواقف مع أولئك الذين اعتدت أن تتعامل معهم في يوميات الحياة، ولربما اكتشفت في لحظات ما أنها علاقات خاوية خالية من معاني الألفة الصادقة، فسرعان ما تتغلب فيها المصالح الشخصية، وسرعان ما تختفي الضحكات الخادعة المُبطنة بمواقف الغيبة والنميمة والحديث من وراء الجدران بما يغيظ!! الحمد لله الذي أعطانا التبصر والإدراك والوعي القلبي بحقيقة تلك الشخصيات التي تكتشف أنك أضعت أوقاتك معها بلا فائدة، وأضحت فقط مجرد أدوات جامدة تتعامل معها وفق ضروريات الحياة لا غير. أما العلاقات الصادقة فسرعان ما تعود تلك الغائبة لفترات طويلة، تتعانق معها القلوب بعد انقطاع، وكأنك تعانقها كل يوم، بمحبة أسبغها الله تعالى في قلبك تجاهها. إنها المحبة والتقدير الذي لا يُشترى بثمن، فمحبتك مُقدمة في حساباتهم على بعض المفاهيم الدنيوية التي صنعها البشر وفق منظورهم، لأن الألفة هي التي ستبقى في ذلك الميدان، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المُتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي». أما التدبر الأشمل لحياتك، فهو التدبر المُتعقل الذي لا يجعلك تحيد عن ثوابت الاستقامة والتعلق بالله عز وجل، فكل خطوات النجاح والتميز إنما تعود إلى قوّة علاقتك بالله عز وجل، وبرسالتك السامية في الحياة «إني جاعل في الأرض خليفة». ففي كثير من الأوقات نحيد عن المعاني التي خُلقنا من أجلها، وننصهر في بوتقة «اللهو الدنيوي القاتل» والذي يجعل المسلم خاوياً من مسارات الخير، وخاوياً من رصيد الآخرة الذي يُفترض أن نجعل حياتنا كلها مصنعاً يكون نتاجه «الفردوس الأعلى» من الجنة بإذن الله تعالى.
ومضة أمل
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا، وبركة في أعمارنا وأرزاقنا وأهلينا وذرياتنا وحياتنا، وارزقنا تلاوته وتدبره وحفظه على الوجه الذي يُرضيك عنا.