لعل الدورة الاستثنائية التاسعة والثلاثين للمجلس الوزاري لمجلس التعاون الخليجي، والتي أنهت اجتماعات اليوم الواحد في الدوحة يوم الثلاثاء الماضي، اتخذت قرارات مهمة وعملية غير التي تم إعلانها في البيان الختامي أو في تصريحات الوزراء الذين شاركوا فيها، وهذا أمر منطقي بل ومطلوب في ظل ظروف إقليمية ودولية قلقة، ناتجة عن اختلال موازين القوى المتصارعة على توسيع مصالحها ومن ثم تكريسها في منطقة حافظت على أهميتها الاستراتيجية منذ بدء عصر الفتوحات الاستعمارية، حتى بدت إيران في ظل هذا الوضع المضطرب، وكأنها القوة الوحيدة القادرة على فرض وجهات نظرها على دول المنطقة، إما بقوتها المستعرضة بالمناورات العسكرية الدورية التي تجريها، أو بقوة خلاياها النائمة أو أذرعها المنتشرة في بعض الدول التي غفلت عن مواجهة مثل هذه الأخطار، بحيث باتت تلك الخلايا بانتظار إشارة التحرك من طهران لتعبث بأمن دول الخليج العربي، بعد أن أعطى الوضع الخاص لإيران كشريك استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية في العراق بعد عام 2003 شعوراً طاغياً بالتفوق الإقليمي على دول المنطقة مجتمعة، وعلى الدول التي لها مصالح استراتيجية فيها. إن الحديث عن الحوار والاحتكام إلى منطق القانون الدولي، لا يمكن أن يحصل بين طرفين غير متكافئين أو على الأقل متقاربين في القوة العسكرية والاقتصادية، لأن أي خلل في موازين القوى لصالح أي من الجانبين، سيفسره الجانب القوي على أنه فرصة لانتزاع تنازلات سياسية وجغرافية من الطرف الضعيف، وربما يأخذ هذا الحكم بعداً أكثر أهمية إذا كان الطرف الآخر هو إيران بالذات، المعروفة بأنها لا تحترم تعهداتها المثبتة بالاتفاقيات والمعاهدات التي تبرمها مع الدول الأخرى، وربما تعد ذلك قمة الشطارة والمهارة السياسية والدبلوماسية، ولهذا يمكن النظر إلى تصريحات وزير خارجية دولة الإمارات العربية التي حث فيها إيران على بدء المفاوضات بشأن الجزر العربية الثلاث، أو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، على أنها تعبر عن أمنيات ونوايا خير لن تجد طريقها إلى التنفيذ، لأن إيران تمسك بالأرض أي تحتل الجزر الثلاث، ومن يمسك بالأرض لا يخسر كثيراً من مرور الوقت والذي سيكرس حقائق جديدة. أما الطرف الآخر فإنه، وإن كان الحق معه وبصرف النظر عن درجة ذلك، إلا أن الأوراق التي بيده لا تعطيه هامشاً من المناورة التي يحشر خصمه في زاوية حرجة تدفعه إلى تقديم تنازلات غير مضطر لها، ثم أن إيران ومن خلال تصريحات كبار مسؤوليها ليست على استعداد لمجرد التفكير بالبحث في قضية الجزر، التي تعدّها ملفاً مغلقاً وأرضاً إيرانية وستبقى كذلك، على حد قول علي أكبر ولايتي وزير الخارجية الإيرانية الأسبق والمستشار الأعلى للشؤون الخارجية لعلي خامنئي مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية. أما محكمة العدل الدولية فلا يسمح لها قانونها بالنظر في أي قضية ما لم يتفق طرفا الأزمة على إحالتها إلى المحكمة، على ذلك فينبغي البحث عن مداخل جديدة للتعاطي مع هذا الملف، غير افتراض حسن النية عند إيران، فما جدوى الحديث عن الالتزام بالمطالبة بالحقوق السيادية لدولة الإمارات العربية من خلال الخيار السلمي وضمن أطر القانون الدولي، إذا كان الطرف الآخر يستهين بهذه المبادئ وينظر إليها على أنها عربة الضعفاء للوصول إلى أهدافهم من دون عناء أو تضحية؟ مفاوضات الأقوياء إن الجلوس على مائدة المفاوضات، سيبقى ضرباً من الخيال ما لم يشعر طرفا المعادلة، أن هناك قوة عسكرية تقف خارج قاعة الحوار على أهبة الاستعداد لتعديل الاختلال في موازين القوى، وربما كان من العبث المراهنة على الدعم الخارجي المفترض من جانب قوى دولية كبرى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والتحالف الغربي، لمعالجة وضع في منطقة كانت تنظر إليها بصفتها ساحة صراع ساخنة مع قوى دولية منافسة، وكما إن الولايات المتحدة نظرت إلى القارة الأمريكية على أنها الحديقة الخلفية لها، كما جاء في مبدأ الرئيس الأمريكي جيمس مونرو الذي حكم قبل نحو قرنين، والذي أكد في رسالة وجهها إلى الكونغرس في 2 ديسمبر 1823م، أن نصف الكرة الغربي هو منطقة نفوذ لبلاده لا يحق لأية دولة أوروبية منافستها فيه، فإن واشنطن اعتمدت على مبدأ ملء الفراغ الذي جاء به الرئيس دوايت آيزنهاور الذي حكم في خمسينيات القرن الماضي، لبسط هيمنتها على الوطن العربي وخاصة منطقة الخليج العربي، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية التي فقدت قدرتها على التحكم بمسار الأحداث في القارة الأمريكية بحيث برزت على الواجهة نظم حكم يسارية أعلنت خروجها على بيت الطاعة الأمريكي، بمعارضة لسياسات الحكومة الأمريكية لم تستطع واشنطن ردعها، فإن ما جرى في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، كان انعكاساً للإخفاقات التي لحقت بالمشروع الأمريكي في أفغانستان والعراق. لم يعد كافياً أن تصدر بيانات استنكار شديدة اللهجة وبصفة علنية عن جامعة الدول العربية، ولا عن مجلس التعاون الخليجي للزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى جزيرة أبو موسى، فمثل هذه البيانات لا تعيد حقاً ولا تخيف عدواً، ولو كان لها تأثير عملي على الأرض، لأعادت البيانات وقصائد الشعر العربي، فلسطين إلى الأمة، منذ أن كتب الشاعر المصري علي محمود طه قصيدته التي غناها محمد عبدالوهاب، وطالب فيها بتجريد السيف العربي عن غمده بعد أن جاوز الظالمون المدى، كما إن وصف الزيارة بالعمل الاستفزازي لا يغير من سوء الحال شيئاً، فضلاً عن أن هذا أقل ما يقال فيها من الناحية الشكلية، ولأنه جزء مما تمليه اتفاقية تشكيل المجلس نفسه باتخاذ المواقف السياسية المشتركة للوقوف إلى جانب أي طرف منها يتعرض للتهديد الخارجي، أو أن تعبر عن تأييدها للجهود التي تبذلها دولة الإمارات لاستعادة السيطرة على جزرها المحتلة، فأدراج الخارجية الإيرانية مكتظة بمثل هذه المذكرات أوالبيانات أو التصريحات وربما تم إتلاف معظمها، كما إن الحديث عن تصعيد عسكري خليجي أو عربي يبدو في غير وقته حالياً، ما لم يتعزز بتحالف قوي تدعمه قوى دولية كبرى تجد في أمن منطقة الخليج العربي جزءاً من أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية. إن تجربة الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية ومعها تحالف دولي واسع عام 1991 على العراق بسبب قضية الكويت، لن يتكرر أبداً ومهما كانت الظروف فذلك لم يكن وقوفاً إلى جانب الكويتيين أو إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي كما تحاول أطراف تسويق هذه الفكرة، بقدر ما كان تعبيراً عن مصلحة استراتيجية أمريكية في إخراج العراق من معادلة التوازن الاستراتيجي العربي والإقليمي مع كل من إيران وإسرائيل، وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية قوة دولية تعمل من أجل استعادة حقوق الدول الحليفة لها أوالصديقة، فإن قضية الجزر الثلاث العائدة للإمارات العربية يمكن أن تكون ساحة الاختبار الحقيقة للفرز بين النوايا الكامنة والمواقف المعلنة، لكن المراقبين يعتقدون أن الخيار العسكري من جانب الولايات المتحدة الأمريكية مجمد أو محذوف من القاموس، ليس لأن إيران قوية أكثر مما يجب، وإنما لأن أمريكا ضعيفة أكثر مما ينبغي، في عالم التوازنات الدولية القائمة حالياً، وخاصة بعد المأزقين العراقي والأفغاني، اللذين أظهرا أمريكا عارية تماماً على مسرح الأحداث الدولية، كقوة منزوعة الإرادة وعاجزة عن دخول اختبارات القوة في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط. أمريكا ليست أسطورة أقرت الإدارة الأمريكية ولأول مرة بعجزها عن خوض حربين في وقت واحد، بعد أن ظلت تطرح نفسها على أنها القوة القادرة على مواجهة كل ما يعترض طريقها من تحديات، مهما كانت كبيرة أو تعددت ساحاتها، فهي التي كانت تواجه حرباً طاحنة مع الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية بالنيابة في فيتنام وذلك حينما حشّد السوفييت والصينيون كل ما في طاقتهم، لإلحاق الهزيمة بأمريكا في فيتنام والهند الصينية، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية وعلى الرغم من حجم المواجهة التي خاضتها والهزيمة التي لحقت بها في ذلك الوقت، فإنها اعتبرت التجربة الفيتنامية درساً طور من القدرات التقنية لمواجهة الاتحاد السوفيتي نفسه، خاصة وأنها استدرجت إلى حرب استنزاف من جانب التحالف الشيوعي العالمي ثم ردت على ذلك باستدراج الاتحاد السوفيتي إلى أفغانستان فخرج منها مثقل الجراح حتى خسر نفسه في نهاية المطاف، ولهذه العوامل مجتمعة فلن يكون بوسع الولايات المتحدة الأمريكية الدخول في مواجهة لأنها مهزومة نفسياً في هذه البقعة من العالم بالذات والتي تمكنت من هزيمة المشروع الأمريكي من دون أن تحصل على دعم خارجي كما كانت فيتنام تحصل عليه. ولعل في اختيار الرئيس الأمريكي باراك أوباما استراتيجية شرق آسيا بدلاً من الشرق الأوسط، لأنها أقل تكلفة في ميزان المدفوعات السياسية، لا سيما وأن الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبل، ما يعزز من نظرية المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي عن تعاقب الحضارات، والتي افترض أنها تقوم استجابة لتحديات اجتماعية أو مادية، وعندما تصل إلى مرحلة العجز عن الاستجابة لتلك التحديات فإنها تدخل مرحلة الانهيار، بسبب افتقادها القوة الأخلاقية والقيمية والروحية، فيحصل الافتراق وتموت القدرة على الإبداع، وكما الإنسان في مراحل نموه فإن أرنولد توينبي حدد خمس مراحل عمرية لكل حضارة أو إمبراطورية عبر التاريخ، فمن الميلاد والنشأة، إلى الازدهار والتوسع السريع، إلى الجمود والعجز، ثم الانحلال والتدهور، وأخيراً السقوط والانهيار. الولايات المتحدة الأمريكية التي صعدت كقوة دولية كبرى، مع أفول نجم إمبراطوريات أوروبية مسيحية مختلفة اللغات والمذاهب، وامتد وجودها على طول المعمورة وعرضها، وعلى الرغم من أن أمريكا تحاول تجديد نفسها بين آونة وأخرى، إلا أنها ليست استثناءً عن هذه القاعدة وهي (ليست أسطورة نهاية التاريخ) كما يقول توينبي، بل هي حلقة واحدة من حلقات تطور البشرية، وربما تعرف من خلال مفكريها ومراكز البحث هذه الحقيقة، ولأنها تعي حقائق التاريخ وسننه، فإنها تسعى لإضعاف القوى الدولية التي ترى فيها فرصة الصعود، كي تبقى قوية مقابل قوى ضعيفة وليست قوية بمواجهة أقوياء، وربما يعد مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد لإعادة إنتاج سايكس بيكو، لتفعيل مقص أكثر حدة مما حصل للوطن العربي في القرن الماضي، ولأن الولايات المتحدة الأمريكية مشغولة بنفسها وحتى أمد غير منظور، فستبقى الثلاجة التي يتم فيها تبريد كل الملفات الساخنة، انتظاراً لعودة أوباما إلى البيت الأبيض في ولاية ثانية والذي يرى المراقبون أن يده ستكون مطلقة أكثر مما فعل خلال الولاية الأولى، مما قد يساعد على تجديد شباب الإمبراطورية الأمريكية الزاحفة نحو النهاية ولكن علامات الاحتضار لا يمكن للعين أن تخطئها، على العموم يمكن افتراض أن هذه سنة الانتخابات التي تصاب بها الإدارة الأمريكية بالشلل التام، هي التي تدفع بالقوى الدولية الكبرى، والدول الصغيرة لتحريك ملفات قد لا تستطيع التقرب من أرصفتها في ظروف أخرى. استعينوا بالكتمان إن وضعاً دولياً مضطرباً، نتيجة انكفاء الولايات المتحدة لمعالجة أزماتها الاقتصادية والعسكرية، وظهور دلالات على أن هناك قوى آسيوية مثل الصين والهند باتت تمتلك اقتصادات كبيرة جداً، وتريد دوراً سياسياً دولياً مكافئاً، وكذلك عودة الاتحاد السوفيتي السابق من دون نظرية شيوعية وباسم جديد، هو الذي وفر إغراءً كافياً لدول إقليمية تسعى إلى التمدد مستغلة حقبة انعدام الوزن الذي تعيشه العلاقات الدولية، هذه الصور المضطربة في المشهد الدولي، باتت لا تسمح بالاطمئنان إلى جانب التعهدات المعلنة من جانب الحلفاء الخارجيين، فالاعتماد على النفس والاستعداد لأسوأ الاحتمالات وتعبئة الرأي العام ووضع موارد البلدان الخليجية في خدمة مشروع القوة المادية عسكرياً واقتصادياً والقادرة على التصدي للطوارئ كلها هو وحده الذي يجنب المنطقة احتمالات الحرب، فلا يجوز تحشيد الفرق الموسيقية التي تنشد للسلام والمحبة، إذا كان الفريق الآخر يحشد الفرق العسكرية ويستعرض قوته الصاروخية، ويعزف المارشات الحربية، فالرد يجب أن يكون من جنس الفعل نفسه وحينما يشعر أي طرف أن الثمن الذي يمكن أن يدفعه لمغامرات غير مدروسة أكبر من المكاسب التي قد يحصل عليها، فإنه سيلجأ إلى خيار السلام عبر التفاوض، وإلا فأن أي مفاوضات بين أطراف غير متكافئة لا يمكن أن تؤدي إلى نتائج مرضية أبداً، ولعل في لغة الخطاب السياسي والدبلوماسي الخليجي السابق ورسائل الحوار، أسيء فهمها من جانب طهران، وهو ما أغرى إيران في الماضي برفع صوتها عالياً على نحو مزق الآذان وخرق جميع التقاليد السائدة في علاقات الدول مع بعضها، لذا يجب تصعيد قوة الخطاب السياسي العربي عموما والخليجي خصوصاً والمستند إلى قوة مادية حقيقية، كي يبقى سيد الموقف مع تفعيل لحديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حينما قال استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فهل يمكن الركون إلى الإمكانات الذاتية لدول مجلس التعاون الخليجي في التعاطي مع ملف الجزر العربية الثلاث، وغيرها من الملفات التي تثير قلقاً مشروعاً وهاجساً في الأوساط العربية؟ اعتماداً على دعم عربي متعدد المحاور؟ أم أن الوقت ما زال مبكراً؟ إن مجرد تداعي دول مجلس التعاون الخليجي لعقد دورة استثنائية على مستوى وزراء الخارجية لدراسة ملف الجزر الثلاث، يدل على نضج ووعي متزايد في تعاطي الدبلوماسية الخليجية مع الملفات الساخنة والتي تحتاج إلى مستوى عال من الحكمة والحزم والاستعداد لجميع الاحتمالات العلنية والسرية معاً، وخاصة حينما يتصل الأمر بعلاقات دول المجلس مجتمعة مع إيران، أو علاقات أي عضو من أعضاء المجلس مع إيران بنحو خاص، لأن طهران ظلت تمنح نفسها امتيازاً خاصاً لم يعترف لها به الآخرون، بل فوق طاقة الآخرين للإقرار به، في التصرف فوق القانون، واعتماد مبدأ التدرج في قضم الأراضي العربية وضمها والمطالبة بعد ذلك بأهداف جديدة. إيران تحمل مشروعاً إقليمياً جموحاً يتجاوز قدراتها وحقوقها التاريخية وخارطتها الجغرافية، وهذا يدعو العرب المتضررين من هذه السياسة، إلى البحث عن آليات عملية لمواجهة ذلك المشروع على مراحل يمكن أن تتداخل مع بعضها، ولكن المرحلة الأولى وهي التي تعمل لإيقافه عن حدوده التي وصل إليها، ولا يتم ذلك إلا من خلال زيادة مستوى التنسيق وتشديد الحصار الاقتصادي الدولي المفروض على إيران، وخاصة من دولة الإمارات العربية نفسها صاحبة المصلحة الحقيقية المباشرة بملف الجزر، لكن هذا يستدعي تضافر جهود الأطراف مجتمعة لرسم الصفحات والمحاور التي تضعف الطرف المقابل سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ليس بالضرورة اللجوء إلى الأساليب التعبوية العسكرية، أو ما عند الجيش من إمكانات، وإن كان بالإمكان عدم إغفال الاستراتيجيات العسكرية وسحبها على المعركة السياسية والاقتصادية والتجارية، بما يؤّمن كسب المعركة بأقل الخسائر. أما المرحلة الثانية فتتلخص بإعادة القوة الإيرانية إلى داخل حدودها القديمة، وإذا كنا عددنا أن المرحلة الأولى ليست عسكرية، فإن المرحلة الثانية متشعبة وواسعة النطاق، فمن يخطط لقلع شجرة ضارة، ليس عليه أن يأتي بجرافة ويقتلعها من مكانها، مما قد يؤثر على المناطق المجاورة، بل تبدأ الخطة أولاً بقطع المياه عنها ثم الانتقال إلى تقطيع فروعها وأغصانها، ومنعها من القدرة على إنبات فروع جديدة، وهذه الخطة ليست ذات طابع أمني فقط على أهمية الدور الأمني، ولكن المطلوب هو تحرك متعدد المحاور بحيث تجد إيران نفسها كياناً منبوذاً على المستويين الرسمي والشعبي. أما المرحلة الأخيرة فتتلخص في جعل إيران في حالة دفاع عن النفس مقابل ما تعده أخطاراً محدقة بها داخلياً وخارجياً من غير أن نمكنها من امتلاك قوة إضافية. فهل استطاع اجتماع الدوحة إيصال رسالته إلى الزعامة الإيرانية؟ وهل تمكنت تلك الزعامة من فك شفرتها ورموزها بصفة صحيحة؟ الفاو وكسر الإرادات تاريخ العلاقات بين إيران والوطن العربي منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم، بل منذ نشوء منظومة الدولة في بلاد فارس وجيرانها العرب، استندت إلى مبدأ فارسي راسخ، وهو أن إيران وبصرف النظر عن أسماء الدول التي نشأت فوق أرضها، كانت تعتمد قانون القوة لفرض وقائع جديدة على الأرض كلما سنحت لها الفرصة لاستخدام القوة، إما لنمو قوة فائضة عن حاجتها الداخلية فيتم توظيفها للتوسع، وإما لضعف في الجانب الآخر من المعادلة وعلى الدوام كان يمثله العرب، ولكن إيران سرعان ما تنكفئ إلى الوراء حينما لا تجد القوة الذاتية الكافية لفرض وجهات نظرها، فتلجأ إلى الخديعة أو إضاعة الوقت في الأجوبة أو التفسيرات الأكثر غموضاً من التساؤلات المطروحة عليها، فهي والحال هذه لا يمكن أن يمر بخاطرها أن تتخلى عن شيء حصلت عليه بأية وسيلة متاحة، على الرغم من أن إيران لم تتمكن من احتلال أرض عربية بالقوة إلا ما حصل في مدينة الفاو العراقية في فبراير عام 1986 والتي قال هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس الشورى وممثل الخميني في مجلس الدفاع الأعلى يوم احتلال الفاو، إن إيران أصبحت جاراً للكويت ودول الخليج وعليها أن تأخذ ذلك بنظر الاعتبار، مما يؤكد وحدة منظومة الأمن القومي العربي. أما علي خامنئي الذي كان رئيساً للجمهورية حينذاك فقال: إن احتلال الفاو تم بموجب خطة تم العثور عليها في أدراج رئاسة الأركان العامة من أيام الشاه، مما يعزز نوايا التمدد الإيراني على العراق بصرف النظر عن طبيعة حكام إيران، ولكن الفاو نفسها كانت السبب الرئيس لكسر العمود الفقري لإيران، حينما استردها العراقيون في17 أبريل 1988، في معركة ربما هي الأولى التي يسترد فيها العرب أرضاً محتلة من دون أن تشوب التحرير شائبة تقديم التنازلات السياسية للعدو، وأدى انتصار العراق في معركة تحرير الفاو، إلى عودة ميزان القوى لصالح العراق مرة أخرى، وأدى انتصار الفاو بالنتيجة إلى تجرع الخميني كأس السم، حينما وافق على قرار مجلس الأمن المرقم 598 للعام 1987 بعد نحو ثلاثة عشر شهراً من صدوره، ومع ذلك فإن احتلال أرض الغير من دون تضحيات، لا يعني الخروج منها من دون تضحيات، أو من الطرف الذي تعرضت أرضه للاحتلال، وإذا كانت المنطقة لا تحتمل المزيد من الحروب الساخنة، وإذا كان العالم لا يحتمل التفريط بإمدادات النفط منها، فإن امتلاك أسباب القوة الذاتية هو وحده الضامن للأمن الإقليمي والسلام العالمي، وليس من مصلحة العالم أن يشاهد إيران وهي تعبث بأمن المنطقة ويغض الطرف عنها، فإذا كان العالم يرى في منطقة الخزان النفطي الرئيس عامل ديمومة لماكينة الاقتصاد العالمي، فعليه أن ينهض بدوره بردع إيران عن مواصلة هذا النوع الخطر من التهديد، والأهم من هذا كله أن تتصرف دول مجلس التعاون الخليجي على أساس ما تمتلكه من قوة موحدة وهائلة تستطيع بوساطتها تركيع إيران ومن يقف مع إيران، من قوى تتحين الفرص للانقضاض على منطقة الثروة التي لم يكن للإنسان دور في وجودها، وتتطلب أقل قدر من الرساميل ولا يمكن أن تتعرض للخسارة أو الكساد. ولكن كيف تعاملت إيران مع نتائج اجتماع الدوحة؟ قالت طهرن إن سيادتها على الجزر الثلاث غير قابلة للتفاوض، ولكنها دعت إلى إجراء محادثات ثنائية مع الإمارات لإزالة أي سوء فهم، إذن فالاحتلال هو سوء فهم؟ وقال وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي إن بلاده تأمل أن تتصرف الأطراف الأخرى بحكمة وأناة بشأن سوء الفهم الذي يطرأ بين الحين والآخر، وإلا فقد تبلغ الأمور حداً من التعقيد يصعب معه حلها، مضيفاً نحن نريد أفضل علاقة ممكنة مع الإمارات حيث أن علاقاتنا التجارية والاقتصادية مهمة، فأي حكمة أكبر من صبر على احتلال يزيد على أربعة عقود؟ من يتفحص هذه التناقضات في تصريحات وزير الخارجية الإيراني لا يحتاج إلى جهد كبير، ليكتشف أن إيران تريد من دولة الإمارات العربية الاستسلام لنزعة التوسع الإيرانية والتنازل عن جزرها الثلاث، فهو يصف ما حدث بسوء الفهم، ويدعو إلى تمتين علاقات بلاده بالإمارات العربية وخاصة في مجال العلاقات التجارية وهنا تكمن عقدة إيران في زمن الحصار. أما قائد الجيش الإيراني الجنرال عطا صالحي، فرفع من حدة لهجته حينما قال: إن “بلاده لن تسمح لأي جهة بالتطاول على وحدة الأراضي الإيرانية”، وحتى في ردود الفعل الإيرانية التي لم تتخط حدود إزالة سوء الفهم، كان المسؤولون الإيرانيون يهددون بأن الأوضاع قد تصل إلى حد لا يمكن معه إصلاحها، فهل يعد احتلال أرض الغير مجرد سوء فهم؟ ألا يدل ذلك على استهانة خطرة بقواعد القانون الدولي؟ من أجل إعادة إيران إلى صوابها، يمكن أن نفترض أنها تحتاج إلى صدمة قوية على رأسها توقظها من حلم حزين.
International
إيـــــران تخطـــــط لمشــــروع جمــــوح يهــــدف«ابتــــلاع» الخليـــج
27 مايو 2012