العبادة الصحيحة التي تصل العبد بخالقه لا بد أن تثمر نبلاً في الأخلاق، واستقامة في السلوك، وصحوة في الضمير، ويقظة للنفس اللوامة التي تنتقل بصاحبها من منزلة اللوم والمعاتبة إلى منزلة التقريع والمحاسبة ثم إلى منزلة المراقبة الممزوجة بالرغبة والرهبة وهذه عين التقوى، وهي غاية العبادة في الإسلام. يقول الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في الحديث المشهور: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً". وهذه الأركان هي العمد الأساسية التي يقوم عليها بناء الإسلام الشامخ، وهي الأسس المتينة التي تبنى عليها الشخصية السوية المتكاملة الصالحة المصلحة، وهي في جوهرها علاقة خاصة بين العبد وربه تنعكس على علاقته بكل ما يحيط به من إنسان وحيوان ونبات وجماد؛ فلا يتصرف المرء في شأن من شئونه دق أو جل إلا بتوجيهات هذا الإله الكبير المتعال الذي أخلص له العبادة وتوجه إليه وحده بها في الخلوة والجلوة، والضحوة والعتمة، والسهل والجبل، والسفر والحضر، والأمن والخوف، وهذا الانضباط السلوكي هو أبرز مظاهر التقوى التي أثمرتها العبادة الصحيحة الخالصة. والتقوى هي جوهر الأركان الخمسة؛ فعن الركن الأول يقول الحق سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} (محمد). فقد ربط الحق سبحانه بين الإقرار له بالوحدانية ولرسوله بالرسالة وبين الاستغفار من الذنب، وإذا كانت الوحدانية عنوان الإسلام فإن الاستغفار عنوان التقوى؛ فلا يستغفر من الذنب إلا من كان ذا قلب تقي يعمل حسابًا للقاء الله الواحد الذي آمن به وصدق برسوله واستبشر بوعده وخاف من وعيده. ثم ربط الحق سبحانه بين الوحدانية والأخوة الإيمانية وتقوى القلوب؛ فلا يستغفر المؤمن من ذنوبه فقط ولكن يستغفر لذنوب إخوانه أيضًا، وهذا من تقوى القلوب التي تستشعر قوة الرابطة بينها وبين المؤمنين فتأسى لحالهم، وتشفق عليهم من جراح المعاصي وآثار الذنوب فتلهج إلى الله بالدعاء أن يغفر لهم الزلات، وأن يقيل العثرات. وعن جوهر الركن الثاني من أركان الإسلام يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: من الآية 45)، ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"، وفي الحديث القدسي يقول ربنا سبحانه: "إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ولم يستطل بها على خلقي وقطع النهار في ذكري ولم يبت مصرًّا على معصيتي ورحم الأرملة والمسكين من أجلي". إن العبادة الصحيحة الخالصة المقبولة هي التي تمنع صاحبها من الكبر والعجب والإصرار على المعصية، وتحجزه عن الفحشاء والمنكر، وترطب لسانه بذكر الله، وتملأ قلبه بخشيته، إنها الصلة التي تصل العبد بينبوع الرحمة الإلهية فيرحم خلق الله ابتغاء مرضاة الله، وتصله بينبوع الحكمة الإلهية فينفر من كل منكر يجلب عليه سخط الله، وتصله بالدار الآخرة فيمشي على الأرض وقلبه معلق بالسماء، وهمته متوجهة إلى الملأ الأعلى، ومقصده رضوان الله والجنة، وهذا لب التقوى. وعن الركن الثالث من أركان الإسلام وهو الزكاة يقول ربنا سبحانه مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: من الآية 103)، إنها ليست ضريبة تجبى إلى خزينة الدولة ولا إتاوة تنتزع من الإنسان عنوة وهو كاره، وليست إحسانًا يلقيه الغني إلى الفقير، ولكنها عبادة يؤديها الغني وهو يستشعر حاجته إلى إخراجها كحاجة المريض إلى الدواء. إنها لا تداوي البدن ولكنها تداوي النفس وتهذب البخل وتقلم أظافر الشح وتزكي في النفس بواعث العطاء والبذل والتضحية وتملأ القلب بالخشية أن يكون مصيره مصير هؤلاء الذين يشقون بأموالهم {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} (التوبة). وهذه الخشية التي تملأ القلب هي أساس التقوى التي تم. وعن الركن الرابع من أركان الإسلام يقول ربنا سبحانه مخاطبًا عباده المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} (البقرة)؛ فالتقوى هي مقصود الصيام وغايته إذ يربي في الإنسان تلك الرقابة الذاتية؛ فينبعث في الفعل والترك من إحساسه العميق بأن الله معه على الدوام يحصي دقات قلبه وأنفاسه، ويعلم شاردة وواردة،- وبذلك تشع تقوى صيام النهار لتنير دجى الليل البهيم، وتصهر حرارة تقوى الصيام جليد الجرأة على المعصية في الخلوات، وتلقى أشجار التقوى الباسقة في قلب الصائم ظلالها الوارفة على صحراء الهوى وهجير الشهوات. أما عن الركن الخامس من أركان الإسلام فقد بدأت سورة الحج بداية لا علاقة لها بمناسك الحج ولكن علاقتها بجوهره لا تنفصم، بدأت بقوله تعالي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} (الحج)، فهذا المطلع يأخذ الإنسان من ضجيج الحياة الدنيا إلى مشهد الحشر يوم الزلزلة، ومن مشهد الزحام في مناسك الحج إلى مشهد الزحام في أرض المحشر والمنشر يوم العرض الأكبر، وهذه اللفتة توحي بأن جوهر الحج هو الاستعداد لهذا اليوم وما يولده ذلك في القلب من الخشية والتقوى. فيا من شهدت لله بالوحدانية ولرسوله بالرسالة وأقمت الصلاة وآتيت الزكاة وصمت رمضان وحججت البيت الحرام لا تنس أن التقوى هي لباب كل هذه الأركان، فاتبع السنة والقرآن، وارض بقسمة المنان، واعمل ليوم الحشر والميزان، وكن دومًا على استعداد للقاء الواحد الديان.
العبادة الصحيحة التي تصل العبد بخالقه لا بد أن تثمر نبلاً في الأخلاق، واستقامة في السلوك
27 مايو 2012