^  حين تم الإعلان عن استقلال جمهورية جنوب السودان في 9 يوليو2011م كان الجميع مدركاً أن الانفصال ليس نهاية مشكلات السودان، بل هو بداية مرحلة جديدة من تفاقم المشكلات سيتجاوز أثرها السودان إلى الأقاليم المحيطة به، وأهمها الوطن العربي. فبعد إعلان الحكم الذاتي في إقليم كردستان العراق ومحاولات الأكراد الفاشلة لإعلان الاستقلال التام لأنه لم يستوفِ حقه من الدعم الإقليمي والدولي، فإن تقسيم السودان يعتبر، عملياً، النجاح الأول لمخطط تقسيم المنطقة إلى دويلات متعددة، وهو المشروع الذي يعول عليه الغرب وإسرائيل كثيراً في تصدير تجربة التقسيم القائمة على مظالم الإقصاء والتهميش بسبب الفوارق الإثنية والدينية. الحديث عن مشاريع تقسيم السودان عديدة وقديمة والدور الغربي والإسرائيلي في دعم الانفصال والحركات الانفصالية ليس محلاً للنقاش، ففي حين كانوا هم الحاضر الوحيد في دعم عملية الاستفتاء والتقسيم كان العرب الغائب الأكبر عن هذه الكارثة، وكأن السودان ليس دولة عربية!، في المقابل لا نستطيع تجاهل فشل الحكومات السودانية المتعاقبة في حل المشكلة الجنوبية، ودورها في تهميش المكونات الجنوبية وازدرائها وإهمال التنمية في الجغرافيا الجنوبية التي تعد الأوسع في السودان، فشل الحكومات السودانية في الحفاظ على وحدة السودان سوف يُدرّس للأجيال القادمة ويكون عبرةً قاسية في أهمية الوحدة الوطنية وخطورة تهميش الإثنيات والديانات في الدول متعددة التركيبات، وخطورة تغليب نمط سكاني أو ديني واحد بأي حجة كانت، وخصوصاً الغلبة للدين الإسلامي الحنيف والقومية العربية. مشروع التقسيم في السودان لم يكتمل، المشروع يفترض استقلال دولتين عن الدولة الإسلامية في الشمال لتصير الحسبة ثلاث دول سودانية مستقلة (حسب أقل المخططات تقسيماً)، أحد هذه الدول المرجحة في المرحلة القريبة القادمة إقليم دارفور، وتجدر الإشارة إلى أن جمهورية جنوب السودان وإقليم دارفور يكتنزان ثروات هائلة من البترول والمعادن والألماس واليورانيوم، وهنا مكمن الخطورة، فالهدف هو إفقار السودان العربي وتجريده من ثرواته، يضاف إلى ذلك عجز جمهورية جنوب السودان وإقليم دارفور (في حال استقلاله) عن استثمار تلك الثروات والاستفادة منها بأدني مستوى، حيث إنهما يفتقدان للمنشآت الصناعية القادرة على تحويل المواد الخام وتصديرها، كما إن الإمكانات البشرية المؤهلة شبه معدومة في هاتين المنطقتين، فجمهورية جنوب السودان تعتبر حالياً، أفقر دولة أفريقية وأكثرها تخلفاً وافتقاداً للكفاءات البشرية فعدد الأطباء والمهندسين محدود جداً، الأمر الذي سيكون مدخلاً للاستثمارات الغربية والسيطرة على هذه الثروات الأفريقية وفق حسابات سياسية غربية لا يتحرك الغرب إلا بعد دراستها بتمعن!، فضلاً عن أن إقليم دارفور وجمهورية جنوب السودان غير مستقرين سياسياً وأمنياً وغير منسجمين اجتماعياً فالصراع القبلي متفجر على أشده، والخلافات على الحدود والمراعي قديمة متوارثة لم تُحل بعد، مما قد ينذر بحروب أهلية متعددة داخل كل إقليم. تدهور الأوضاع في السودان يهدد الأمن القومي الخليجي من بوابته الأفريقية، فالمتضرر الأول والمباشر من مغبات التقسيم هو مصر، التي لم تكمل ثورتها والتي تنشغل بضبط الوضع السياسي والأمني، مشاكل السودان سوف تؤثر على حصة مصر من مياه النيل مما قد يضر بالمشاريع التنموية التي تستعد الأحزاب المتنافسة في الانتخابات للتباري فيها خصوصاً مشاريع إعادة زراعة القطن والقمح والأرز وغيرها من المشاريع التي جففت منابعها منذ سنوات، مما سيزيد من معاناة المصريين وصعوبة إنجاز مهمة ثورتهم، كما إن تفجر الصراعات القبلية في السودان بين القبائل المسيحية والمسلمة والعربية والزنجية قد يهدد بتفجير القضية القبطية من جديد في مصر، وهناك مؤشرات لتحريك إقليم النوبة في مصر للاحتجاج على التهميش لأسباب عرقية! من جهة ثانية فإن الانفلات الأمني في السودان، في حال انبعاث حروب أهلية، سيؤثر على أمن باقي الدول العربية وخصوصاً ليبيا التي تعاني من انتشار السلاح وصعوبة جمعه، وستتفاقم المشكلة عبر الحدود الليبية السودانية المشتركة، وقد يعود تدخل القاعدة والجماعات الإسلامية الجهادية المتمركزة في الصومال لتشهد الدول العربية الأفريقية مشاكل أمنية وسياسية مفتوحة على التوقعات. تقسيم السودان أرسى أساساً خطيراً في مقومات طلب الانفصال وهو الاختلاف العرقي والديني الذي يؤدي إلى تهميش أقاليم بعينها من التنمية الاقتصادية والمشاركة السياسية، وجعل من مسألة طلب الانفصال مسألة سهلة ومن تحققها أمراً أسهل، وهو ما يسعى الحراك الجنوبي في اليمن إلى الاقتداء به وانتهاجه، طمعاً في تقسيم اليمن وعودة جمهورية جنوب اليمن وهو أمر ستكون عواقبه وخيمة على الأمن القومي الخليجي، إذ إن الحوثيين يمتلكون المشروع الانفصالي نفسه أو على أقل تقدير لديهم مطالب بالحصول على إقليم إداري مستقل تابع لحكومة صنعاء. إن دخول الدول العربية الأفريقية في فوضى في ظل تغير أنظمتها ومرورها بمرحلة تجديد سياسي واقتصادي، سيلقي بظلاله على الأمن القومي الخليجي، ولن تفلح الجغرافيا في صد رياح التأثير القاسية، فبعد أزمة البحرين أثبت الدعم العربي دوراً فعالاً في كشف حقيقة المؤامرة على البحرين وفي صد محاولات التدخل الخارجية في مشكلات البحرين الداخلية، وضعف أي دولة عربية بعيدة عن الإقليم الخليجي ستحدث ارتداداته آثاراً خطيرة على الأمن القومي العربي والخليجي، وهذا قانون من قوانين القومية العربية على العرب ألا يتجاهلوا نتائجه . وكالعادة تستثمر السياسة الإيرانية الإخفاق العربي وتدخل في الوقت المناسب لمصالحها ولإدارة صراعاتها، ففي السنوات الأخيرة عززت إيران علاقاتها مع الدول (الشرق أفريقية) كالسودان وأريتيريا وجيبوتي والصومال وجزر القمر وتنزانيا، وزار أحمدي نجاد ووزراؤه ومساعدوه جميع هذه الدول، وأعلنت إيران في عدة منتديات ومؤتمرات إيرانية - أفريقية أنها ستتعاون مع الدول الأفريقية للوقوف ضد الهيمنة الإمبريالية دعماً للشعوب المستضعفة المستغلة من الغرب، وعقدت عدة اتفاقات عسكرية واقتصادية معها، وافتتحت مراكز ثقافية يهدف أغلبها لنشر المذهب الشيعي الولائي (ولاية الفقيه) في كل هذه الدول لتشكيل أقليات موالية للنظام الإيراني، كما إن الأسطول الإيراني يرابط عند باب المندب ضمن الدول التي تحارب القرصنة. السياسة الإيرانية عامة ترى في دول شرق أفريقيا منفذاً هاماً (وخانقاً) للدول العربية مثل مصر واليمن والسعودية، وترى في توسيع تحالفاتها الاقتصادية والعسكرية والثقافية مع روسيا والصين ودول شرق آسيا ودول أمريكا الجنوبية وحالياً الدول الأفريقية بديلاً عن حصار (الشرعية الدولية) التي لا تعترف إيران بشرعيتها، وإيران ترى في البحر الأحمر طوقاً جديداً للإطباق على دول الخليج بعد أن هددت بغلق مضيق هرمز وكثفت من المناورات العسكرية والتجارب الصاروخية على ضفاف الخليج العربي وفوق أمواجه، بينما تظل الدول الخليجية ترى في البحر الأحمر عاملاً آمناً وعازلاً عن أخطار الحروب الأفريقية ومشكلاتها القائمة والقادمة، وشتان بين الرؤيتين! اليوم وطبول الحرب تقرع في السودان بين شماله وجنوبه بعد احتلال جمهورية جنوب السودان لمنطقة هجليج الشمالية وتلويحها باستعادة منطقة آبيي المتنازع عليها بين الدولتين، وبعد تهديد جمهورية الجنوب بوقف صادرات النفط إلى الشمال واقتسام عائداته كما نصت اتفاقية الانفصال، وبعد توحد الجبهة الداخلية في السودان ضد ممارسات جمهورية الجنوب، أين يقف العرب من السودان العربي الذي يعاني وحيداً منفرداً، في حين يقف الغرب وإسرائيل والعديد من الدول الأفريقية خلف الجنوب؟ لقد أهمل العرب لسنوات طويلة سلة الغذاء العربية في السودان التي كانت تكفي الوطن العربي بأكمله وأهملوا سلة اللحوم في الصومال وتركوه للحروب والدمار، فلم يولوا الاستثمار الاقتصادي فيهما عناية كافية، وأهملوا التدخل لحل مشكلات (السلتين) السياسية والاقتصادية، لكن هذه المرحلة هي الأخطر، فنحن على أعتاب مشاريع تقسيم عديدة بين الغرب وحلفائه وأنداده في المنطقة، لذلك يتحتم على الدول العربية والخليجية، بالدرجة الأولى، الوقوف مع السودان في محنته ودعم حقه الشرعي في الجغرافيا والموارد الاقتصادية، والتصدي لأي نفوذ غربي أو إسرائيلي أو إيراني في أفريقيا الغربية لأنها الخاصرة الهشة لدول الخليج العربي، ومن خلالها سيتم تصدير فوضى جديدة للمنطقة في ظرف تاريخي عربي مضطرب، والأنجع توخي الأزمات القادمة بدل البحث عن حلول حال وقوعها، وتبقى السودان دولة عربية تستحق منكم قليلاً من الاهتمام أيها العرب، فأين نحن من السودان العربي؟