كتب - علي الشرقاوي: في بداية علاقتنا بتجارب الشعراء الكبار الذين أثروا أوطانهم أولاً وبالتالي أثروا الإنسانية، بما قدموه من قصائد صادرة من القلب لكي تصل القلوب العطشى للمحبة والعطشى لمواصلة زراعة الحياة بالخير، كنا نبحث عن الكلمة المعبرة عن الجماهير، عن الشعب، عن الأغلبية الحالمة بحياة أفضل للناس جميعا، وكنا نركض كالأرانب البرية وراء كلمة الاستقلال والحرية والعدل والمساواة. وكان بوشكين واحداً من هؤلاء الشعراء العظام الذين أناروا لنا الدرب ، فسرنا على خطاه من أجل تقديم الأجمل للوطن الذي ننتمي إليه ، ومن ثم الرغبة في إيصال أصواتنا إلى أبعد كوخ على سطح الأرض . وكنا نردد أنا وعبدالحميد ويعقوب المحرقي وعبداللطيف راشد وعبدالحميد خنجي مقاطع من قصائده. في الواقع كنا نبحث عنها كما يبحث العاشق عن أثار أو رائحة معشوقته ، في الترجمات هنا وهناك ، ترجمات مصرية أو سورية أو ما تطرحه دار التقدم ، أو من خلال المجلات الأدبية ، ومنها قول بوشكين (وطويلاً سيظل قومي يحبونني، فقد هززت بقيثارتي المشاعر الخيرَة.. وتغنيتُ ممجداً الحرية في عصري العاتي.. ناديت بالرحمة على المقهورين). هكذا قال الشاعر الروسي العظيم بوشكين ، هذا الذي أطلقت عليه الكثير من الألقاب ، منها أمير شعراء روسيا ، و شاعر الشعب ، وشاعر الجماهير ، و شاعر الالتزام . وشاعر واقعية ما قبل الواقعية. فمن هذا البوشكين الذي ملأ أرجاء العالم بقصائده التي تمجد الحرية والعدل والمساواة ؟ابن الأصولالحبشية يفتخر بجد أمه ألكسندر بوشكين أمير شعراء روسيا و كاتب روائي و مسرحي، ولد في موسكو في 6 يونيو العــــــــــام 1799م. نشــــــــأ في أســـــــــرة من النبلاء كانت تعيش حياة الترف. كان والده شاعرًا بارزًا فساهم ذلك على إنماء موهبته الشعرية. ترجع جذوره إلى أصول حبشية. والدته ناديشد أوسيبافنا كانت حفيدة إبراهيم جانيبال وهو أفريقي ومن الضباط المقربين لدى القيصر بطرس الأول، ورث بعض الملامح الأفريقية، حيث أمتلك شعراً أجعداً، وشفتين غليظتين. عصر الإنتاج الذهبي يكفي أن نستشهد برؤية الآخرين من نقاد وشعراء ودارسين عن تجربته الشعرية، إذ قال بعض الدارسين لنتاجه الأدبي: إن دراسة هذا الشاعر تدفع إلى دراسة الأدب الروسي جملة، ومعرفة مراحل القيصرية الروسية منذ بطرس الأول حتى نقولا الأول، وكذلك معرفة الحوادث التاريخية التي وقعت في النصف الأول من القرن التاسع عشر. سميت فترة إنتاجه بالعصر الذهبي للشعر الروسي، وهو عصر التقارب بين الأدب الروسي من جهة والآداب العربية والشرقية من جهة أخرى.رؤية غوغول لبوشكين في ذات مساحة بيضاء كتب غوغول الكاتب الروسي الواقعي العظيم، وصديق بوشكين ومعاصره:«عندما يذكر اسم بوشكين، تتألق في الذهن الفكرة عن شاعر روسي على نطاق الأمة كلها.. إن بوشكين ظاهرة فذة، ولربما تكون الظاهرة الوحيدة للنفسية الروسية. وفيه تجلت الطبيعة الروسية، والروح الروسية، واللغة الروسية، والخلق الروسي في تلك الدرجة من النقاء والجمال المصفى على عدسة بصرية بارزة”.الاكتناز بالتجربة الروسية عبر مساحة من العمر تمتد على مسافة 38 عاماً عاصر بوشكين في حياته القصيرة أحداثاً تاريخية هائلة. فانطبع في ذاكرة الشاعر إلى الأبد المد الوطني الذي أثارته الحرب الوطنية لعام 1812م ، واندحار قوات نابليون، وعودة المنتصرين الظافرة إلى أرض الوطن. وقد شهدت بداية العشرينيات من القرن التاسع عشر نهوضاً في حركة التحرر الوطني في أوروبا الغربية (الثورة في نابولي، والانتفاضة في إسبانيا)، والنضال ضد السيطرة التركية في اليونان). كما احتدم الوضع السياسي في روسيا أيضاً. فأسست الجمعيات السياسية السرية، التي كانت تستهدف القضاء على نظام الرق، والإطاحة بالحكم القيصري المطلق. فأصبح بوشكين الشاب الشاعر المعبر عن النزعات المتحررة لشبيبة النبلاء المتقدمة. واشتهرت بشكل خاص أشعار الشاعر السياسية والمقطوعات الهجائية المناهضة للتحكم، والمدافعة عن حقوق الشعب المداسة (القصيدة الغنائية "الحرية” والقصيدتان "القرية” و "إلى تشادايف” وغيرها). وقد قال القيصر الكسندر الأول باستياء أن "بوشكين أغرق روسيا بالأشعار المثيرة التي تحفظها الشبيبة كلها عن ظهر قلب. ينبغي أن يُنفى بوشكين إلى سيبيريا”. ولم يتحقق هذا التهديد، إلا أن بوشكين نفي من بطرسبيرغ إلى طرف روسيا الجنوبي، بحجة نقل إداري في الوظيفة. لكن كانت سنوات النفي إلى الجنوب فترة من العمل الإبداعي الشديد، والتأملات العميقة، فترة التفتح العظيم لعبقرية بوشكين الشعرية. وفي العام 1820م يفرغ الشاعر من أول عمل إبداعي كبير له، وهو قصيدة "روسلان ولودميلا”. وقد أهدى الشاعر الشهير فاسيلي جوكوفسكي معاصر بوشكين الأقدم، صورته إلى بوشكين، وعليها الإهداء المشهور: "إلى التلميذ الغالب من المعلم المغلوب”.شيء من المؤلفات البوشكينية -”زنجي بطــــــــــــرس الأكبر”، قصيـــــــــدة (1820م) "روسلان ولودميلا”، "أسيـــــــــــــر القفـــــــقـــــــــــــــــــاس” (1822م)، "نــــــــــــافــــــــــــــــورة باختـــــــــــــــــــــــــشي ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــراي” (1823م)، "الغــــــــــجـــــــــــــــــر” (1824م)”بــــــــــــــــوريــــــــــــــــــس غدونوف”، قصيدته الوطنية الملحمية "بولتافا”، قصيدة "الفارس النحاسي” (1833م)، روايتــــــــــــــــــه الشعــــــــــــرية "يفغينـي أونيغين”، دراما أسطورية "عروسة الماء”، قصيدة "بيت في كولومنا”، "قصص بيلكين”، "ملكة البستوني” عـــام (1833م)، "دوبروفسكي” العــــــــــــام (1841م) -”ابنــــــــــة الآمر” العـــــــــام (1836م).المبارزة التاريخية الأشهر رغم أن بوشكين لم يعش أكثر من 38 عامًا من جراء نقمه على أحد أصدقاء زوجته وهو البارون داتين أحد أشراف الفرنسيين ولا سيما بعد أن اقترن البارون بأخت زوجته ناتالي ليسهل عليه الاتصال بزوجته، انتهى الأمر به بالمبارزة معه، وفي الساعة التي اتفقا فيها على المبارزة أطلق النار عليه مرتين فأصاب الشاعر بإصابات خطيرة فقضى نحبه، وتوفي العام 1837م، لكنه ترك الكثير من الآثار الأدبية؛ لدرجة أن قراءه يشعرون أنه قد عمَّر كثيرًا. لقد مات بوشكين لكن قصائده لا تموت ، وما كتابتنا شيئاً عن حياته وتجربته الشعرية إلا أبلغ دليل على حضوره خارج إطار زمانه و خارج إطار مكانه ، إنه شاعر الكون ، كما هو شأن الشاعر الإنجليزي وليم شكسبير والشاعر العربي أبو الطيب المتنبي .شيء من روائع بوشكين من قصيدة (القوقاز) لبوشكين «القوقاز تحتي. وحيداً أقف في القمةفوق ركام الثلوج عند حافة التيار المندفع؛ ونسر، قد انطلق عن قمة مقابلة، راح يحلّق بموازاتي في مكانه بثبات. من هنا أرى ولادة الجداول وأولى حركات الانهيارات الثلجية الرهيبة. الغيوم هنا تمشي تحتي بوداعة؛ ومن خلالها، وهي تتساقط، تضج الشلالات؛ وتحتها كتل هائلة لجلاميد عارية؛ وهناك في الأسفل طحالب هزيلة وشجيرات جرداء؛ وهناك أيضاً أدغال، ظلال خضراء،حيث تزقزق عصافير وتجري أيائل. وهناك أيضاً يعشش أناس في الجبال، وتزحف نعجات في التيارات الداهمة، ويهبط الراعي إلى الوديان البهيجة، حيث يعدو أراغفا بين الضفاف الظليلة، ويختبئ في ثغر فارسٌ بائس، حيث يعبث تيريك بفرح عارم؛ يعبث ويئن ، كما الوحش الفتي ، عندما يرى الطعام وهو في قفص من حديد؛ ويضرب الشاطئَ بعدائية عبثية ويلحس الصخور بأمواجه الجائعة ... عبثاً ! لا طعام يوجد له و لا سلوى : فالجلاميد الضخمة الصماءتضيق الخناق عليه بشراسة”.