كتابة - رولاند بنروز:ترجمة: أمين صالحرغم أنه يعمل، على نحو متزامن، في لوحات ومنحوتات عديدة خلال فترة طويلة، إلا أننا نجد تماسكاً وتناغماً في كل عمل، وهذا يرجع إلى تحليه بالصبر في انتظار تلك اللحظة حين تبدأ المادة في مخاطبته والبوح بالوسائل التي من خلالها يستطيع أن يبعث فيها الحياة. المصادفات والصدمة التي ترافقها هي الوسائل الأكثر ثباتاً، والتي لا تخذل، في خلق توتر الروح. قال ميرو ذات مرّة: "أعمل مثل بستانيّ. الأشياء تأتي على مهل. أنا لم اكتشف الأشكال كلها في وقت واحد، بل هي شكـّلت نفسها تلقائيا. الأشياء تسلك مجراها الطبيعي.. إنها تنمو، تنضج، وعليّ أن أغذيها وأسقيها مثلما أفعل مع الخسّ. إنها تنضج في ذهني، لذا أعمل دائما في أشياء عديدة في آن واحد”.منهج محدد من جانب آخر، يجد ميرو نفسه مطالباً باتباع منهج محدد وعدم الاتكال كلياً على العفوية، ففي مناسبات عديدة كُلـّف بتحقيق نصب تذكارية كانت تقتضي طريقة مدروسة أكثر في العمل. حين طـُلب منه أن ينفـّذ الجدارية الضخمة في مطار برشلونة، كانت خطوته الأولى أن يقضي، وحيداً في الموقع، أياماً عديدة وليال مؤرقة، وهو يتأمل فحسب. والذي جعل المهمة أكثر صعوبة هو غياب التخاطب مع عمل، كان قد اتخذ شكلا معينا، والذي يمكن أن يربك عنصر العفوية. أخيراً، في ظرف نصف الساعة، صمم المشروع على مخطط تمهيدي (ماكيت) بخطوط كفافية واضحة وألوان أوّلية رائعة. النتيجة كانت قوية ومتميزة، وميرو كان راضياً ليس فحسب عن البساطة الأخاذة التي اتسمت بها، بل أيضاً عن عملية تحويل النموذج التمهيدي إلى شكل خزفي طوله 50 متراً وارتفاعه 10 أمتار، يتيح له إيلاج عنصر المصادفة أثناء تغذيته بمئات من الآجر المطلوبة.«جناح قبّرة محاط بزرقة الذهب ينضم ثانية إلى قلب الخشخاش الذي يهجع على مرج مرصّع بالماس”.. هذا عنوان لوحة كبيرة، ذات تكوين تجريدي، رسمها ميرو العام 1967. رغم أنه - كما يخبرنا- لا يشرع أبداً في الرسم انطلاقاً من عنوان محدد، إلا أنه غالباً ما يجد عنواناً، مدروساً تقريباً، في مرحلة مبكرة.. "أنا أجد عناويني تدريجيا بينما أعمل، وعندما أزاوج شيئاً بشيء آخر على القماش. حين أعثر على العنوان، أعيش في مناخه بحيث يصبح واقعاً مطلقاً بالنسبة لي مثلما الموديل -امرأة مضطجعة، على سبيل المثال- بالنسبة لفنان آخر”.فكرة شعريةإذا أردنا أن نستمتع بأعمال ميرو حتى الامتلاء، فينبغي أن نفهم هذه العملية الاستثنائية، غير العادية، والتي فيها تصبح اللوحة مرتبطة، وبطريقة ما، معتمدة على فكرة شعرية. لو نظرنا من جديد إلى اللوحة التي ذكرتها توا، واضعين عنوانها نصب أعيننا، فإن عناصر جديدة تبدأ في النشوء والبروز. جناح القبّرة اكتسب هالة زرقاء، ونحن ندرك الآن بأننا مطوقون بضوء ذهبي، والجناح يطل من أعلى ناظراً إلى خشخاش قرمزي ينير المكان حوله مثل ماس متلألئ. العنوان يصبح مرافقاً شعرياً للوحة، ويقدم تفسيراً للون والمكان، كما يوسّع ويتمّم تأثيرهما.إن رؤيتنا هنا تكون مصحوبة بدوار حين ندرك بأننا لم نعد على الأرض، بل نستمتع بابتهاج القبّرة وهي تتطلع إلى أسفل مشدوهة بتألق زهرة حمراء صغيرة في امتداد فسيح من العشب الأخضر. عوضاً عن تقديم متع بصرية تجريدية تماما، يخلق العنوان واللوحة معاً استعارات جديدة للمكان والحركة وحياة الحقول. ثمة أمثلة أخرى عديدة يوفر فيها العنوان عنصراً جديداً حين يُقرأ مع الصورة. لكن في بعض اللوحات يكون العنوان مندمجا في اللوحة ذاتها. في "الجسد الأسمر لفتاتي الشقراء” (1925م) نجد أن الكتابة تغطي القماش برمته بحيث تلعب الكلمات دوراً رئيساً في التكوين، وهو النظام الذي اتبعه من قبل ماكس إرنست. في لوحة "صمت” (1968م)، الحروف التي تشكـّل كلمة "صمت” مبعثرة في رقعة حمراء كبيرة في المحور بحيث أننا عندما نقرأ الحروف، يبدو تكرار حرف E كأنه يستحضر أصداء بعيدة.. أصداء محتلة بإشارات أخرى والتي نجدها تتكرر في حجم متناقص في بقعة نائية. إنه كما لو أننا أطلقنا صرخة: صـ..م..م..م..ت (sile-ee-nce) داخل قاعة فسيحة يتردد فيها الصدى. هذا يوحي بأن ميرو يستخدم الصمت كوسيلة لخلق الصوت.أشارة ملتبسة رغم أن ميرو يمتلك حساسية مفرطة تجاه الموسيقى، واستخدم عناوين مثل: "راقص يصغي إلى الأرغن في كاتدرائية قوطية” أو "امرأة تصغي إلى الموسيقى”، إلا أنه يدرك بأن أية إشارة إلى الصوت في اللوحة محكومة بأن تكون ملتبسة. هو دائماً يعمل في صمت تام، لكن يمكن الإحساس بتأثير الموسيقى على لوحاته في ذبذبة الخطوط أو الألوان.في الفن المعاصر غالباً ما يكون العنوان مداناً باعتباره تلوثاً أدبياً غير ضروري لإدراك الفنون البصرية. الرسامون التجريديون، كموندريان، كانوا يفضلون ترقيم أعمالهم أو استخدام العنوان كوسيلة، فحسب، لتحديد الهوية. تقليدياً، العنوان كان مجرد وصف لمحتوى اللوحة، باستثناء بعض الأعمال البارزة مثل عناوين غويا التي كانت تهدف إلى تمديد العنصر المجازي. السورياليون، على نحو مقصود، بدؤوا في إلغاء التخوم بين الشعر والرسم، واختاروا أن يفعلوا ذلك بأساليب غامضة ومدروسة لإثارة الخيال عن طريق خلق التنافر والتعارض.من دون وسيط ميرو، في أعماله الأولى، وفي مرحلة ارتباطه العميق بالسورياليين، كان أقل اهتماما بالعناوين. مثل بيكاسو، اكتشف بأن اللوحة تستطيع أن تعبّر عن نفسها من دون وسيط، مع أن العنوان -في بعض الحالات- كان يفرض نفسه أو يُبتكر من قِبل أصدقائه. منذ العام 1930 بدأت العناوين، بصرف النظر عن تلك المكتوبة على القماش كجزء من التشكيل، تصبح ذات أهمية فائقة. وفقا لطريقته الخاصة في العمل، صار العنوان ينبثق من اللوحة التي لم تنته بعد. إنه يصبح، على حد تعبيره، مثاله (موديله).. فكرة خفية تأخذ شكلاً بصرياً. هذا التفاعل بين أنواع مختلفة يثري عمله بمجازات مدهشة وغير مألوفة. عناوينه أشبه بمقاطع شعرية.. لكن ليس هذا هو الغرض، إنها عناصر ملازمة تهدف إلى تكثيف المناخ الغنائي أو تمديد أبعاد العمل، ومن ثم ينبغي قراءة العناوين دوماً، بانتباه وتركيز، كجزء من اللوحة.إذا كان علينا أن نختار إحدى الثيمات التي تهيمن على أعمال ميرو أكثر من أي ثيمة أخرى، لاخترنا -لأسباب عديدة- الليل، وجعلناه شعاره. الليل هو شعار النبالة الذي يرتديه ميرو، والذي بواسطته نستطيع أن نحدّد ونميّز الخصائص الغالبة لقوته، والتي بها يفتننا ويأسرنا.
خوان ميرو: أعمل مثل بستاني أسقي أشياء تنمو وتنضج
10 يونيو 2012