أضحت الاعتقالات في الأراضي الفلسطينية المحتلة ظاهرة يومية مؤلمة ومقلقة، وباتت جزءاً من ثقافة كل من يعمل في مؤسسة الاحتلال الأمنية، وتقليداً ثابتاً في سلوكهم، إذ (لا) يمضي يوم واحد إلا وتُسجل فيه اعتقالات، وغالبيتها العظمى ليس لها علاقة بالضرورة الأمنية كما يدعي الاحتلال، وإنما بهدف الإذلال والإهانة والانتقام.

ونُفذت تلك الاعتقالات بطرق عدة كاقتحام البيوت أو الاختطاف من الشارع ومكان العمل، ولم تتردد في اقتحام المستشفيات وإيقاف سيارات الإسعاف واختطاف المرضى والمصابين، أو عبر الخداع بما يسمى قوات خاصة يطلق عليها “وحدات المستعربين”، أو عبر المعابر والحواجز العسكرية المنتشرة على الطرق ومداخل المخيمات والمدن التي تم تحويلها إلى كمائن ومصائد للاعتقال والتنكيل، كما واعتقلت العديد من الصيادين في عرض البحر بقطاع غزة..وزج بهؤلاء المعتقلين في سجون ومعتقلات هي أشبه بالقبور، التي تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة الآدمية، وتتناقض بنحو صارخ مع القوانين والاتفاقيات الدولية.أسرى تاريخيونويعدّ الأسير محمود بكر حجازي أول أسير فلسطيني في الثورة الفلسطينية المعاصرة التي انطلقت في الأول من يناير عام 1965م، إذ اعتقل بتاريخ 18/1/1965م، وحكم عليه آنذاك بالإعدام ولكن الحكم لم ينفذ.وبتاريخ 28 يناير 1971 جرت عملية تبادل (أسير مقابل أسير) ما بين حكومة الاحتلال الإسرائيلي وحركة فتح إحدى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وأطلق بموجبها سراح الأسير حجازي مقابل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي شموئيل فايز الذي اختطفته حركة فتح في أواخر العام 1969م.فيما تعدّ الأسيرة فاطمة برناوي أول مناضلة فلسطينية يتم اعتقالها، في نوفمبر 1967، وحكم عليها بالسجن مدى الحياة وتحررت ضمن صفقات التبادل.وتعد الشهيدة الأسيرة دلال المغربي عميدة الشهيدات فجثمانها الطاهر لا يزال محتجزاً منذ أكثر من ثلاثين عاماً وترفض سلطات الاحتلال الإفراج عنه وعن مئات الجثامين لشهداء وشهيدات انتقاماً منهم وعقاباً لذويهم.ولأن الأسرى .. قضية شعب ووطن... كانت ولا تزال وستبقى قضية مركزية بالنسبة للشعب الفلسطيني وقيادته، وحريتهم كانت دائماً تقف على سلم أولويات منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الفلسطينية كافة التي لم تدخر جهداً من أجل ضمان تحريرهم وعودتهم إلى بيوتهم وذويهم، فحررت الآلاف منهم منذ العام 1967 وإلى اليوم عبر صفقات التبادل والمفاوضات السياسية، وتسعى لتحرير من تبقى منهم في سجون الاحتلال، فلا حرية لشعب ووطن من دون حرية من ناضلوا من أجل الحرية.وتقول وزارة الأسرى والمحررين في السلطة الفلسطينية: كان لا بد إلى جانب النضال من أجل حرية الأسرى، النضال المشروع من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية داخل السجون وانتزاع حقوقهم الأساس وفقاً لما تنص عليه المواثيق الدولية، وتوفير حياة كريمة لذويهم، ومن هنا أنشأت السلطة الوطنية بقرار من الشهيد الرئيس “أبو عمار” رحمه الله وزارة الأسرى والمحررين في أغسطس عام 1998، في سابقة هي الأولى على المستوى الإقليمي، تقديراً لمكانة الأسرى ونضالاتهم، وذلك كي ترعى شؤونهم وتتابع قضاياهم وتوفر احتياجاتهم واحتياجات ذويهم، وهي تقدم لهم الخدمات القانونية والاجتماعية والمادية من أجل التخفيف من معاناة الأسرى وتعزيز صمودهم وضمان حياة كريمة لذويهم وأطفالهم.وأضافت أن قضية الأسرى كانت دوماً وستبقى في صلب اهتمامات القيادة الفلسطينية، إذ اعتمد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته عام 1974، يوم السابع عشر من أبريل من كل عام، يوماً للأسير الفلسطيني.تدويل قضية الأسرىمنذ أن عقد المؤتمر الدولي الأول لمناصرة الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال الإسرائيلي في مدينة أريحا يوم 24/11/2009، بدعوة وبإشراف من وزارة شؤون الأسرى والمحررين في السلطة الفلسطينية وبالتنسيق مع مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات حقوق الإنسان، والذي استمر لمدة ثلاثة أيام، كان من أهم توصيات المؤتمر البدء بتحرك على مستوى الساحات الدولية والإقليمية لتدويل قضية الأسرى واعتبارها قضية إنسانية عالمية على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته الإنسانية والقانونية والأخلاقية في توفير الحماية للأسرى بموجب القانون الدولي الإنساني.وبدأت وزارة شؤون الأسرى والمحررين بتحركات واسعة بهذا الصدد، فشكلت لجنة قانونية مختصة من ذوي الخبرات والكفاءات القانونية وبشراكة وتعاون مع مؤسسات حقوق الإنسان في المجتمع المدني، وتم إعداد الملفات الخاصة بقضية الأسرى وتجميع القرارات والمواثيق الدولية ذات الشأن بهذه القضية كافة وإجراء الاستشارات مع المختصين والخبراء في القانون الدولي الإنساني من أجل بلورة رؤيا قانونية وآليات عمل لتفعيل قضية الأسرى على المستوى الدولي.وتمحورت الرؤية الاستراتيجية التي أعدتها اللجنة القانونية المختصة في وزارة الأسرى حول أربعة نقاط هي:1 - التوجه إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي بهدف الحصول على فتوى قانونية حول الوضع القانوني للأسرى والمعتقلين.2 - الضغط لعقد مؤتمر للدول الأطراف باتفاقيات جنيف الأربع لبحث موضوع المعتقلين الفلسطينيين وحقوقهم.3 - تفعيل قضية المعتقلين على صعيد الجمعية العامة للأمم المتحدة.4 - رفع دعاوى قانونية لمواجهة الانتهاكات الإسرائيلية أمام المحاكم الوطنية للدول التي قبلت بفتح ولايتها القضائية أمام هذه القضايا.الأوضاع في السجونيواجه الأسرى والمعتقلون في السجون والمعتقلات الإسرائيلية كافة انتهاكاً فاضحاً لأبسط حقوقهم الإنسانية، كما يواجهون إرهاباً منظماً وخرقاً سافراً لمواثيق الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الإنسان والاتفاقات الدولية حول معاملة أسرى الحرب والسكان المدنيين زمن الحرب، وتحولت هذه السجون إلى بدائل لأعواد المشانق، فبداخلها يجرى أبشع عمليات القتل الـروحي والنفسي والتعذيب الجسدي وبداخلها يتم إعدام المعتقلين بنحو بطيء، فالحياة بداخلها قاسية جداً، وتشهد أوضاعاً لا إنسانية تتنافى وأبسط الحقوق الإنسانية، فالمباني قديمة بالية تآكلت بفعل عوامل التعرية وسوء الصيانة، والغرف معتمة باستثناء نافذة صغيرة جداً هي نافذة القضبان الحديد وشبكة من الأسلاك الحديد، والغرف تفتقر إلى الهواء اللازم للتنفس بسبب الازدحام وتكدس العشرات في غرفة واحدة، أو في معتقلات هي خيم ممزقة تالفة هي أشبه بالمعتقلات إبان النازية. وسلطات الاحتلال لم تكتفِ باعتقال المواطنين والمواطنات وتقييد حركتهم وسلب حريتهم، بل تسعى جاهدة إلى استهداف جزئيات حياتهم الاعتقالية كلها، بل والخاصة المحيطة بكل أسير داخل السجن من دون تمييز من حيث الجنس أو العمر أو الشريحة، أو حتى الوضع الصحي والاحتياجات الخاصة، وتسعى جاهدة إلى تحديد ساعة النوم وفترتها، كمية الهواء وساعات التعرض للشمس، نوعية الغذاء وما يحتويه من قيمة غذائية وكمية السعرات الحرارية فيه.كما تسعى إلى تحديد الغذاء الروحي بنحو جماعي وفردي، وماذا تقرأ ومتى؟. جنرالات الصبرالأسرى القدامى، عمداء الأسرى، جنرالات الصبر، مصطلحات ثابتة في قاموس الحركة الأسيرة، فـ(302 أسيراً) معتقلين منذ ما قبل اتفاق أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية في الرابع من مايو عام 1994، وهؤلاء يُطلق عليهم مصطلح “الأسرى القدامى” بصفتهم أقدم الأسرى، فأقل واحد منهم مضى على اعتقاله 17 عاماً، ومن بينهم (136) أسيراً مضى على اعتقالهم عشرون عاماً وما يزيد وهؤلاء يُطلق عليهم مصطلح “عمداء الأسرى”، فيما قائمة “جنرالات الصبر” وهو مصطلح يُطلق على من مضى على اعتقاله ربع قرن وما يزيد تصل مع نهاية الشهر الحالي إلى (41) أسيراً، بينهم أسير عربي واحد من هضبة الجولان السورية المحتلة.ومن بين “جنرالات الصبر” يوجد (4) أسرى أمضوا أكثر من ثلاثين عاماً وهم: نائل وفخري البرغوثي، وأكرم منصور، وفؤاد الرازم.ويُعد الأسير نائل البرغوثي عميد الأسرى عموماً وأقدمهم؛ إذ دخل عامه الرابع والثلاثين في الأسر، والأسير “سامي يونس” شيخ المعتقلين وأكبرهم سناً (82 عاماً) عميد أسرى الداخل، والأسير “ فؤاد الرازم” عميد أسرى القدس، والأسير “سليم الكيال” عميد أسرى قطاع غزة.. فيما يُعدّ الأسير “صدقي المقت” من الجولان السورية المحتلة عميد الأسرى العرب وجميعهم أمضوا أكثر من ربع قرن في السجون بصفة متواصلة.لم تشفع لهم طفولتهمالأطفال مستهدفون.. وطفولتهم لم تشفع لهم، بل هي تُحطم، حقوقهم تُسلب، مستقبلهم مهدد بالضياع، فقوات الاحتلال اعتقلت عشرات الآلاف من الأطفال منذ العام 1967، ومنذ بدء انتفاضة الأقصى في 28 سبتمبر 2000، ولغاية اليوم اعتقلت قرابة 8 آلاف طفل، منهم (245) طفلاً لا يزالون رهن الاعتقال ويشكلون ما نسبته (4.1 %) من إجمالي عدد الأسرى، وهناك مئات الأسرى اعتقلوا وهم أطفال وكبروا وتجاوزوا مرحلة الطفولة ولا يزالون في السجون، بل هناك من اعتقلوا وهم أطفال وأمضوا في السجن سنوات طويلة تفوق ما أمضوه من سنوات خارج السجن قبل اعتقالهم، وفي الآونة الأخيرة تصاعدت سياسة استهداف الأطفال وابتزازهم في المستوطنات قبل نقلهم إلى مراكز التحقيق والتوقيف الرسمية.ويتعرض الأطفال لصنوف مختلفة من التعذيب والابتزاز وتنتزع منهم الاعترافات بالقوة وتقدم كمستندات لإدانتهم في المحاكم العسكرية التي أصدرت بحقهم أحكاماً تعسفية تصل في بعض الأحيان إلى السجن مدى الحياة، من دون مراعاة لأعمارهم وظروف انتزاع الاعترافات وهذا التصرف يخالف مجموعة كبيرة من القواعد القانونية الدولية التي أقرها المجتمع الدولي والتي تكفل لهم حقوقهم وتحمي طفولتهم.نساء معتقلاتتعرضت المرأة للاعتقال كما الرجال، وتُعامل كالرجال وتتعرض لما يتعرض له الرجال من صنوف مختلفة من التعذيب والعزل الانفرادي والحرمان ولربما معاناتهن تفوق الرجال بسبب أوضاعهن واحتياجاتهن الخاصة. وآلاف النساء والفتيات اعتقلن خلال العقود الماضية وصلت وفقاً لتقديراتنا إلى أكثر من 12 ألف معتقلة، تعرضن لتعذيب قاس وأهينت كرامتهن، واحتجزن في ظروف صعبة وقاسية.وخلال انتفاضة الأقصى اعتقلت قوات الاحتلال أكثر من 850 مواطنة، تبقى منهن الآن 37 أسيرة، محتجزات في أماكن لا تليق بهن، ومن دون مراعاة لجنسهن واحتياجاتهن الخاصة، ومن دون توفر حقوقهن الأساس، التي نصت عليها المواثيق الدولية والإنسانية.وفي هذا الصدد نشير إلى أن أربع أسيرات وضعن مواليدهن داخل السجن خلال انتفاضة الأقصى، وبنحو غير طبيعي ولم تحظَين بالحد الأدنى من الرعاية الطبية، وتتم تحت حراسة عسكرية وأمنية مشددة وهي مكبلة الأيدي والأرجل بالأصفاد المعدنية، ولم تتم إزالة هذه القيود إلاّ أثناء العملية فقط. ومارست أجهزة الأمن الإسرائيلي ضد الأسرى أكثر من سبعين شكلاً جسدياً ونفسياً منها: الضرب، الوضع في الثلاجة، الشبح، الهز العنيف، الوقوف مدة طويلة، الحرمان من النوم، الحرمان من الأكل، العزل، الضغط على الخصيتين، تكسير الضلوع، الضرب على الجروح، اعتقال الأقارب وتعذيبهم أمام المعتقل، البصق في الوجه، التكبيل على شكل موزة، الضرب على المعدة وعلى مؤخرة الرأس.. إلخ.فيما الإحصائيات الرسمية تفيد أن هناك تلازماً ما بين الاعتقالات والتعذيب، وأن جميع من مروا بتجربة الاعتقال تعرضوا لأحد أشكال التعذيب النفسي والإيذاء المعنوي أو الجسدي أو الإهانة أمام الجمهور و أفراد العائلة، فيما الغالبية تعرضوا لأكثر من شكل من أشكال التعذيب، بهدف تحطيم سلامة المعتقل وشخصيته وهدم الذات الفلسطينية والوطنية وتدمير الإنسان جسداً وإرادةً وروحاً، وتحطيم شخصيته وتغيير سلوكه ونمط تفكيره ليصبح عالة على أسرته ومجتمعه.أوضاع صحية خطرةالأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي يعيشون أوضاعاً استثنائية من الناحية الصحية، قل ما يعيشها أسرى أو معتقلون في سجون أخرى في العالم وبدون مبالغة، يمكن القول إن جميع الأسرى يعانون من أمراض مختلفة، نتيجة الأوضاع المعيشية وافتقار الغذاء للمواد الغذائية الأساسية والنقص الحاد في الأغطية والملابس الشتوية والظروف القاسية التي تشهدها السجون.ومع الوقت وفي ظل سياسة الإهمال الطبي والحرمان من العلاج، وافتقار السجون لعيادات مناسبة وأطباء مختصين وأدوية ضرورية والمماطلة بإجراء العمليات الجراحية، واستخدام أجساد الأسرى حقول تجارب للأدوية، فإن الأمراض البسيطة تتحول إلى مزمنة، أو تستفحل ويصعب علاجها.والطبيب في السجون الإسرائيلية هو الوحيد في العالم الذي يعالج جميع الأمراض بكأس ماء وبقرص حبة “الأكامول” المخصص لمعالجة الصداع، والأخطر أن هذا الطبيب يكون في خدمة السجان ويتعامل مع الأسير على أنه عدو وليس إنساناً مريضاً وبدلاً من معالجته يسعى إلى تعذيبه ومضاعفة معاناته، ولا يجد الأسير المريض فرقاً ما بين معاملة السجان والطبيب، إلا ما ندر، وهذا يتنافى مع مهنة الطب التي تعدّ إنسانية بحتاً.أسرى شهداء منذ العام 1967م وحتى اليوم استشهد 202 معتقلاً، ومن هؤلاء الشهداء 70 معتقلاً استشهدوا نتيجة التعذيب و51 معتقلاً نتيجة الإهمال الطبي و74 معتقلاً نتيجة القتل العمد والتصفية المباشرة بعد الاعتقال، و7 أسرى استشهدوا نتيجة إطلاق الجنود والحراس النار المباشر عليهم وهم داخل السجون.وفي ضوء ذلك كله ينبغي وقف الانتهاكات الخطرة بحق الأسرى الفلسطينيين، والعمل دائماً وأبداً لدعمهم ومساندتهم وتحريرهم.ودعت وزارة الأسرى والمحررين الفلسطينية المجتمع الدولي بمؤسساته الحقوقية والإنسانية كافة إلى أن يصون ويحمي اتفاقياته ومواثيقه الدولية، وأن يضع حداً لانتهاكات قوات الاحتلال الإسرائيلي وممارساتها، وأن ترسل تلك المؤسسات بما فيها منظمة الصليب الأحمر الدولي طواقمها ومندوبيها ولجانها وبصفة متواصلة للإطلاع عن كثب على الأوضاع الصعبة التي يحياها الأسرى، والعمل الجاد والفوري على وقف تلك الانتهاكات الخطرة لحقوقهم الأساس وصولاً إلى تحسين شروط حياتهم وتطبيق الاتفاقيات الدولية عليهم، على طريق إنهاء معاناتهم بنحو كامل وإطلاق سراحهم جميعاً وإغلاق هذا الملف نهائياً.