كتب – جعفر الديري: إن الحديث صراحة عن آباء تزوجوا في وقت متأخر من العمر، أو ارتبطوا بزوجة ثانية وثالثة وبل رابعة في سن متقدم، حديث لا يحبذه الكثيرون؛ لأنه يمسّ أخطاءهم، ويوجه لهم أصابع الاتهام. فإذا كان الشرع والعرف أباحا للرجل الزواج، فقد وضعا شروطاً لهذا الأمر، منها أن يحظى الأبناء بالرعاية التي تهيئهم لأن يكونوا فاعلين في مجتمعهم، لا عالة عليه، يلتمسون إحسان الناس، حتى أن بعضهم وصل به الأمر إلى حد مطاردة الناس عند البرادات ومحال الكافتيريا، من أجل مئة فلس يشتري بها شطيرة نظراً لعجز أبيه عن دفعها له!. ذلك واقع مؤلم، أثبته آباء في سن الستين والسبعين لم يتحلوا بما تحلى به غيرهم من نظر بعيد، فانساقوا وراء رغبات خلفت أبناء في العاشرة وأقل من هذا العمر. واقع يخفف منه أنه لا ينتشر في كل مجتمع، كما إن الأجيال الجديدة أكثر وعياً وانتباهاً؛ من التورط بزواج يخلّف أبناءً على هذه الشاكلة. نتساءل في تحقيقنا الآتي عن هذه النوعية من الآباء ومستوى تفكيرهم، وعن رجاحة الأعذار التي يسوقونها لتبرير الزواج في سن متقدم. ونتعرف على آراء شباب هم أبناء لآباء في السبعين من أعمارهم، قبلوا بالحديث صراحة دون ذكر أسمائهم الحقيقية. فإلى هذا التحقيق... أنفق على إخوتي يعرب محمد عن ضيقه بالوضع الذي يعيشه في البيت، فأبوه ودّع الحياة تاركاً في رقبته أطفالاً لا يتجاوز أكبرهم الخامسة عشرة، وهو أكبر الأبناء، وأن أباه لم يخلّف له سوى البيت الذي يتقاسمه مع أمه وإخوته وأخواته، فهو بعد أبيه المعتمد في البيت، لذا يخاف من المستقبل ويتردد كثيراً في الزواج، مؤملاً أن يلهمه الله تعالى الصبر حتى يكبر إخوانه وأخواته ومن ثم يلتفت لنفسه ويكوّن أسرة. يقول محمد: كأي شاب أحلم بزوجة وأبناء، لكن هذا الحلم الذي هو حق من حقوق كل إنسان، يبدو بعيد المنال بالنسبة لي. إن أمي وأخواتي وإخواني يعتمدون عليّ دائماً، ولا أعرف هل سأفي بحقوقهم أم سأنشغل بزوجتي وأبنائي عنهم، لذلك أؤثر الانتظار حتى يكبرون. محمد يترحم علي أبيه كثيراً، لكنه لا يستطيع منع نفسه من التساؤل عن الأسباب التي دفعت أبيه للزواج الثاني على أمه والاقتران بزوجة صغيرة في السن خلّفت أخوة وأخوات صغار في السن. ويردف محمد: الواقع إنني ومن في البيت نعيش ظروفاً صعبة، فأنا بالكاد يكفيني راتبي، ولا أحد في البيت يعمل سواي، أنفق جل راتبي على من فيه، ولا أتمكن من ادخار شيء للمستقبل، علماً بأني أعتمد على مساعدات الصندوق الخيري ومساعدات المؤمنين التي تصلني دون معرفة أصحابها. قدوة سيئة من جانبه، يبدو أيمن؛ مشروع أب لا مبال بامتياز، فهو ورغم الظروف الصعبة التي يعيشها، والتي تسبب فيها أبوه، لا يجد بأساً في زواج كبار السن، معتمداً على قلوب الناس الطيبة، التي لا تترك أحداً دون مساعدة «فلن يموت أحد من الجوع» بحسب قوله. أيمن يؤكد أنه ومنذ أن كان في العاشرة، كان أبوه يرسله لطلب المساعدة من الصندوق الخيري في القرية، وكان أمناء الصندوق جزاهم الله خيراً يدفعون لأبيه مساعدات مالية وعينية، «كنت أشعر بالحرج رغم صغر سني، لكن بعد ذلك اعتدت هذه المساعدات، وعلمت أن أبي كان مضطراً لها لإطعامنا. وأنا اليوم لا أعتقد أن أبي أخطأ، لقد تزوج كما يتزوج جميع الناس، وأنجب كما ينجب جميع الناس، فأي بأس في ذلك؟!. إن أيمن الذي يبلغ الخامسة والعشرين، يفكر في الزواج، ولا يشغل نفسه بنفقات الزوجة والأبناء، فهو يرى أن الله تعالى كما هيأ لأبيه أهل الإحسان، فلابد سيهيئ له من يساعده. سيتزوج من اثنتين وثلات ورابعة أيضاً إن استطاع، حتى لو تقدم به العمر، إذ إن من حقه الاستمتاع بالحياة طالما أنه يعيش. لماذا يا أبي من جهتها، وبخلاف أيمن، تذكر مريم أنها وعت منذ وقت مبكر للخطأ الذي ارتكبه أبوها، فهي تتعهد بعدم تكرار خطئه مهما كلفها ذلك، لأنها لا تود لأبنائها أن يعيشوا ما عايشته من أيام صعبة. لقد كانت في المرحلة الابتدائية عندما مرض أبيها مرضاً شديداً ألزمه الفراش لمدة طويلة. تقول مريم: لم أكن سوى طفلة عندما مرض أبي، ولزم الفراش، لم يكن شاباً ولا كهلاً بل شيخاً ، أنجبنا واحدة إثر واحدة، بمعنى أنه الكافل الوحيد لنا، وبعده لا كافل لنا سوى أمي. لم تكن أمي بحرينية بل من جنسية آسيوية، امرأة أميّة لا تقرأ ولا تكتب، كما إنه لا أقارب لها. فمن أين ستنفق على أربع بنات وطفل لا يجاوز السنوات الثالث؟! لا شك أننا مدينون لأهل الإحسان، فهم لم يقصّروا معنا، فشعب البحرين معروف بالتكافل، لكن هذه المبالغ لا تكفي أسرة بهذا العدد، كما إن أبي يحتاج إلى موازنة لأدويته، لذلك اضطرت أمي للعمل، لكن أين؟! لم تجد المسكينة مجالاً سوى العمل في البيوت خادمة باليومية، لكي تعيلنا. وتضيف مريم بعد أن عجزت عن كبح دموعها: لقد توفي أبي رحمه الله، لكن أمي لا تزال تعيش بيننا والحمد لله، وإن كانت مصابة بالضغط والسكري. ورغم أن الترحم على الآباء واجب؛ إلا أنني أحمّل أبي مسؤولية ما عشنا فيه من ضيق، لقد مررنا بأوقات صعبة، لدرجة كرهنا فيها الحياة وتساءلنا عن جدوى إنجابنا، وإلقائنا وسط حياة صعبة، دون أب صحيح الجسم في شرخ الشباب، وأم بحرينية متعلمة يمكنها العمل بوظيفة لائقة. وتتابع مريم: أن زواج الأب في وقت متأخر من عمره؛ جريمة يدفع ثمنها الأبناء، لا يبررها أمية الأب وقصر ثقافته، فكل إنسان صاحب عقل، يدرك أن إنجاب الأبناء مبكراً غير إنجابهم والأب متقدم في السن، وإذا التمسنا العذر لآباءنا، فلا يمكنني التماس العذر لأبناء جيلي مثلاً، فإن وسائل الإعلام اليوم، لم تترك فرصة ليتقدم أي أب بأي عذر، ليرتكب هذه الجريمة، والشاب الذي يؤخر زواجه، ويسوّف، إنسان لا مسؤول. لن أنجب من ناحيته، يرفض إبراهيم إنجاب أبناء رغم أن عمره لا يجاوز الأربعين، فبعد رحلة علاج طويلة طلباً للأبناء دون نتيجة، استقر على الرضا بما قسمه الله تعالى له ولزوجته. يقول إبراهيم: تزوجت صغيراً، طلباً لأبناء أكون لهم الأب والأخ، لا تفرّق بيني وبينهم سنين طويلة. لكن للأسف لم أوفق للإنجاب، ودخلت في دوامة العلاج لسنوات طويلة، حتى بلغت اليوم الأربعين، وعندها تحوّل قلقي من إنجاب الأبناء إلى قلق على الأبناء، فإذا كنت قد سلخت أكثر من 15 عاماً في العلاج، فمتى سأنجب ، بعد عام.. عامين.. خمسة أعوام، ترى ماذا سيكون مستقبل أبنائي، وأنا أبلغ من العمر الخمسين والستين؟! كيف لي أن أتابعهم وزوجتي وهم في مرحلة المراهقة؟! كيف لي أن ألبّي مطالبهم وأنا في سن تلزمني فيها للراحة؟! لا شك أن الشدّة واللين مطلبان ضروريان لتربية الأطفال، لكن الرجل ما أن يبلغ الستين حتى يشعر بالوهن والتعب ويركن للين والدعة، كما إن قلبه لا يتحمل الصراخ والضجيج. لذلك قررت التوقف عن العلاج، وعدم انجاب أبناء لا أستطيع تربيتهم تربية صالحة.غلام يتسول لقمته «كان يقف عند الكافتيريا ينتظر شطيرة الجبن، حين سمع حديثاً يدور بين غلامين في الخامسة عشرة. كان الثاني يقول للأول: «اسأله، ربما وافق»، ولم تمض سوى دقيقة، حتى وجد الأول يسأله: «أتعرفني؟» التفت إليه وأجاب «لا، لا أعرفك»، قال دون مقدمات: «أيمكنك أن تدفع لي ثمن شطيرة كبدة؟». لا يعلم لماذا استشاط غضباً، وانهال على الغلام بكلام جارح، قال فيه: «تتسول لقمتك دون حياء». وقف الغلام مشدوهاً خجلاً من نفسه. أما هو ففكر في الأمر جيداً، وسأل في اليوم التالي عن الغلام فاكتشف أنه أحد أبناء رجل تزوج متأخراً، فما برح يهدي إلى الدنيا في كل عام طفلاً جديداً، حتى ملأ القرية بأطفال يتسولون في كل مكان»!. واحدة لا تكفي «لو أن الندم يعود بالأمور إلى ما كانت عليه، لأكل أصابعه واحدة إثر واحدة، لكنه أخطأ ولا علاج الآن. لقد تقدم في السن بشكل لم يتوقعه، بل أصبح عاجزاً عن العمل مثقلاً بالأمراض والديون، لا راتب ولا تقاعد. فإلى متى سيظل أبناؤه تحت رحمة إحسان الناس؟ وحتى متى يقبل المال الذي يعطيه إياه أخوه وهو يعلم بمدى حاجته له؟!. إنه لم يكن أبداً صاحب عقل، بل هو إنسان منساق وراء شهواته بصورة مفزعة. زوجة واحدة لا تكفي، زوجتان لا تكفيان، يجب أن تكون هناك ثالثة وشابة أيضاً. تزوجها فأنجب منها، وصار مجموعة أبنائه سبعة عشر نفساً، لا يعرف من أين يوفّر لهم الطعام لو امتنع أخوه عن مساعدته»!.