بقلم - عبدالدائم السلامي:أثار الحوار الذي أجرته صحيفة الوطن البحرينية مع السفير الأمريكي كراجيسكي في عددها 2388 بتاريخ 24 يونيو 2012، ردود فعل عديدة من قبل الإعلاميين والساسة في البحرين، لما جاء فيه من تصريحات بدت في مجملها مخالفةً لطبيعة العلاقة التقليدية بين مملكة البحرين وأمريكا التي ظلّت قائمة على التكافؤ والاحترام المتبادل.والظاهر أن توماس كراجيسكي ليس هو السفير الأمريكي الوحيد الذي يسعى إلى حشر أنفه في الشؤون الداخلية للبلد التي يُقيم فيها، فذاك يُعدُّ من صُلب أدوار الدّبلوماسية الأمريكية. ناهيك عن أنّ مملكة البحرين ليست الدولة الوحيدة التي يتحرّك فيها سفير أمريكيّ بحريّة زائدة عن اللزوم، حيث يزور الشركات الكبرى والفضاءات الطلابية ويحادث الوزراء، وهذا الأمر يكفينا لتأكيد معطي العودةُ إلى «تجوال» سفراء أمريكا في المقرّات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة في دول الثورات العربية. نقول هذا، حتى لا يُنظر إلى ما جاء في حوار السفير كراجيسكي لصحيفة الوطن البحرينية على كونه «بدعة» دبلوماسية تحتاج ردّاً صارماً حكومياً وشعبياً، أو قولاً «أصابنا بالصدمة والذهول» «عبدالحليم مراد» لأنه «لا معنى أن يأتي السفير الأمريكي ويعلّم البحرينيين عدم وجود فرق بين التظاهر السلمي والتظاهر المتجاوز للقانون، فالبحرينيون ليسوا بحاجة لمثل هذا التعليم» «يوسف البنخليل»، وهو ما يتطلّب توجيه خطاب إلى «جهتين مسؤولتين عن إعادة الأمور لنصابها؛ الأولى الحكومة والثانية مجلس النواب» «سوسن الشاعر»،وعلى وجاهة هذه الردود وما فيها من غيرة وطنية، نزعم أنّ ما يعني المواطن البحرينيّ اليوم ليس ما قاله كراجيسكي، بل ذاك الذي لم يقله «ولن يقوله أبداً». وعليه، يجب النظر في مضمون الحوار من زاويتيْن: زاوية العادات الدبلوماسية «السياديّة» لأمريكا في تعاطيها مع الشؤون العربية عامّةً، وزاوية واجبات المواطن البحرينيّ في حماية وطنه. وبالنسبة لزاوية النظر الأولى، لا نرى في حوار كراجيسكي أيّ جديد، ولا يحتاج إلى الكثير من التأويل لفهمه، فقد بدا فيه دبلوماسياً صادقاً مع ما تنهض عليه توجّهات السياسة الخارجية الأمريكية مع مختلف أقطار العالم العربي. وهو صدقٌ «أمريكي» ألفناه قائماً على الكثير من التناقُضِ المتعمَّدِ في النظر إلى الأشياء والأحداث وفق ما يوصف بازدواجية مواقف أمريكا التي تعتمد فيها تقنية «المكياليْن» في تعاملاتها السياسية مع الشأن العربيّ، حيث ظلّ السفير في حواره يثبت الشيءَ وينفيه في الآن نفسه، فانسحاب المعارضة البحرينية من مجلس النواب يمثّل، بالنسبة إليه، خطأً سياسياً مَرّة، وعملاً تكتيكياً مرة أخرى، وإذْ ينفي تدخّل طهران في شؤون دول مجلس التعاون الخليجي، يعود ليثبته بالقول إن طهران تمثل تهديداً للمنطقة وهي خطر على العالم. بل إنّ في حواره ما يبدو لنا، وللوهلة الأولى، مغازلةً مجّانيةً لطهران تتناقض تماماً مع سياسات أمريكا في منطقة الخليج العربي.أمّا إذا نظرنا إلى مضمون الحوار في إطار ما شهدته المملكة من احتجاجات سياسيّة قادتها أطراف في المعارضة ذات ولاءات أيديولوجية لا تصبّ في مصلحة البحرين دولةً وشعباً، وجب علينا، حينئذ، أن ننظر بتمعّن إلى المسكوت عنه في حقيبة السفير كراجيسكي. وسنكتفي من ذلك بأمور ثلاثة:- أوّلها أنّ الرّجل فتح الأعيُنَ على حقيقة أنّ ما يعني أمريكا، وإيران ليس نشر الدّيمقراطية ودعم حقوق الإنسان في البحرين، وإنّما الحفاظ على مصالحها في منطقة الخليج العربي عامة. ولتحقيق ذلك، تعمل سفارتها على فتح قنوات تواصل مع بعض قوى المعارضة بهدف ابتزازها سياسياً واستغلال أيديها لتحريك الجمر، وهو أمر أكّده كراجيسكي بقوله في مسألة الحوار الوطني «وشجعنا جميع الفئات والجمعيات على المشاركة فيه»، ما يشي بكون تلك الجمعيات المعارِضة محكومة بتوجيهات خارجية، ولها أجندات أجنبية قد لا تتوافق مع ما يطمح إليه المواطن البحرينيّ من استقرار ماديّ ومعنويّ، إضافة إلى ما يعنيه ذلك من رغبةٍ لدى هذه المعارضة في الدّفع بالاحتجاجات الحالية للخروج من صفتها الوطنية الداخلية إلى فضاء التقاطعات السياسية والأيديولوجية الخارجية بما يتعارض وتأكيد ملك البحرين، في خطاب 24 يونيو، على أنّ الخلاف مع المعارضة «شأن بحريني داخلي خاص بشعب البحرين، وأن شعبنا قادر على إدارة خلافاته والتحاور بشأنها دون وساطات خارجية». يُضاف إلى ذلك أنّ القوى الأجنبيّة، في سعيها إلى حماية مصالحها الحيويّة الخارجية، تستثمر رغبة المعارضة في الوصول للسلطة خارج الأطر الشرعية، وتوحي لها أن «تركب رأسها» وتعطّل كلّ المبادرات الوطنية في إقامة حوار شامل تشارك فيه كلّ القوى السياسيّة الفاعلة بالبلاد، على غرار انسحاب جمعية الوفاق من طاولة الحوار الوطني إذ برّره كراجيسكي بقوله إنّ «لديها أسبابها السياسية في الانسحاب».- أما الأمر الثاني الذي سكت عنه السفير الأمريكي، هو أنّ ثمة تفاهمات سياسية خفية بين أمريكا وإيران حول اقتسام المجال الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي بدأت تتجلى ملامحها منذ أكثر من 5 سنوات. وهو ما ساهم في تنامي خشية بعض المحلّلين السياسيّين من أنّ هناك خطة أمريكية إيرانية، تحاك خيوطها خلف الستار، تهدف إلى تمكين إيران من دول الخليج وتسهيل انقضاضها عليها في المستقبل القريب، في إطار صفقة كبيرة بطلاها واشنطن وطهران «البرلماني الكويتي عبدالله النفيسي». وبمثل هذه الخشية، يمكن أن نبرّر عدم مجّانية ما سمّيناه «مغازلة» السفير الأمريكيّ لنظام طهران وعدم تناقض مضمونه أصلاً.- أمّا ثالث الأمور التي نستفيدها من حوار السفير الأمريكي بصحيفة الوطن البحرينية هو القولُ بـ«غباء» المعارضة البحرينية وعدم استفادتها من حاصل تاريخ المعارضات السياسية التي احتمت بالجهات الخارجية، إذْ في تعويلها على القوى الإقليمية «إيران» والغربية «أمريكا»، وفق ما يروج بكثرة في المشهد الإعلامي البحريني، راحت تفقد ما تقوى به المعارضات، وهو الالتفاف الشعبيّ حولها لإحداث التغيير الديمقراطي بأفضل وسائل الشرعية وهو الانتخاب. إذ تشير كلّ الدلائل أنّ الخاسر الأوحد من احتجاجات البحرين هو المعارضة ذاتها، فالشعب البحريني بدأ ينفض يديه من وجودها، كما إن عدد أتباعها صار في تراجع مستمر.نقلاً عن ميدل إيست أونلاين