من المعروف أن مؤسسات المجتمع المدني تشمل المنظمات الموجودة داخل الدولة، وتلعب دوراً وسيطاً بين الجماهير ومؤسسات الدولة، ويُطلق عليها في أحيان كثيرة جماعات أو مؤسسات الضغط داخل النظام السياسي، خاصة أنها متخصصة في مجالات معينة، ولكن السؤال المطروح هنا هل هناك مجتمع مدني دولي؟.بالطبع يوجد مجتمع مدني دولي، وهو مجتمع يضم كافة المؤسسات غير الربحية وغير الحكومية، وتمارس أنشطة في قطاعات محددة، مثل حقوق الإنسان والدفاع عن البيئة والأعمال الإنسانية والرعاية الطبية وعبر مختلف القارات. المجتمع المدني الدولي يشمل المؤسسات الوسيطة بين الحكومات والشعوب على مستوى العالم، بحيث تدافع هذه المؤسسات عن القضايا الدولية، وحماية المصالح على المستوى الدولي أيضاً.يتسم المجتمع المدني الدولي بأنه منظومة ضخمة ومعقدة العلاقات، ومن الأهمية بمكان تسليط الضوء على تطور هذا المجتمع بشكل عام من الناحية التاريخية.ارتبط تطور المجتمع المدني الدولي بتطور العلاقات الدولية نتيجة تداخل علاقات الاقتصاد مع السياسة، ما أسهم في زيادة تأثير العلاقات الدولية على الأوضاع السياسية داخل الدول. خلال النصف الأول من القرن العشرين لم يكن هناك تأثير كبير لمؤسسات المجتمع المدني الدولي لسببين، الأول انشغال مؤسسات المجتمع المدني بالقضايا الداخلية أكثر من اهتمامها بالقضايا الخارجية، وكرّس هذه الحالة الأوضاع السياسية التي ميّزت الدول في تلك الحقبة التاريخية، إذ انشغلت معظم مؤسسات المجتمع المدني آنذاك بالتحرر من الاستعمار، أو المطالبة بالحقوق المدنية والإصلاح السياسي وإنهاء التمييز والمطالبة بالعدالة في توزيع الثروة، أو إيقاف حالات الحروب الأهلية. ويتمثل السبب الثاني في ضعف وسائل الإعلام ومحدودية تأثيرها، فكما هو معروف لم تكن وسائل الإعلام التقليدية في النصف الأول من القرن العشرين بمثل تأثيرها الحالي، ولم تساعد وسائل الإعلام على نقل القضايا بين المجتمعات والدول، وظلت القضايا محل اهتمام مؤسسات المجتمع المدني داخلية لا أكثر. التطور الأبرز في تاريخ مؤسسات المجتمع المدني الدولي، هو الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945م ، وتولدت قناعة عامة بأهمية وجود مؤسسات دولية تعنى بوقف الصراعات وإنهاء الحروب وإشاعة السلام في العالم لاعتبارات إنسانية بحتة، ومثل هذه الأفكار أدت إلى تأسيس الأمم المتحدة لاحقاً، ودعمت بدورها مفهوم المجتمع المدني الدولي لتحقيق أهداف وتطلعات هذه المنظومة الدولية. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت بعض المؤسسات بالظهور في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وكان الهدف منها الاضطلاع بدور بارز لتعزيز العلاقات بين الدول من خلال إنهاء حالة الصراعات والحروب التي تضرر منها العالم، لكن ظروف الصراع بين المعسكرين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، والاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، ساهمت في تطوير أنشطة هذه المنظمات، ومن أمثلة ذلك تطور نشاط مؤسسات المجتمع المدني العالمية المعنية بدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح السياسي، والحال بالنسبة لمؤسسات حقوق الإنسان المتعددة مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وغيرها من المؤسسات. في نهاية القرن العشرين صار المجتمع المدني الدولي أكثر وضوحاً، في ظل الثورة الإعلامية الكبيرة خلال تسعينيات القرن الماضي، والسمة الأبرز هنا لمثل هذه المؤسسات أنها صارت أكثر تأثيراً، وأكثر نفوذاً من ذي قبل، وصارت أعدادها أكبر بكثير، ولها نشاطات تتجاوز حدود الدول وصولاً إلى القارات. مثل هذا الدور ساهم في تعزيز مكانة مؤسسات المجتمع المدني الدولي على مستوى حكومات العالم، وحظيت الكثير منها باعتراف وتقدير الحكومات الرسمية، وصارت العديد من البلدان تتعاون معها في مختلف المجالات، ومع ذلك لا توجد حتى الآن قوانين أو أنظمة دولية معينة تنظم نشاط وعمل مؤسسات المجتمع المدني الدولي وحتى تمويلها وشرعية مزاولتها الأنشطة خارجياً، واللافت أن أنشطة هذه المؤسسات تتركز من دول الغرب بشكل رئيس وتنشط في دول العالم الأخرى، وهو ما دفع هذه المؤسسات إلى فتح مكاتب خاصة بها حول العالم.أهم القضايا المثارة عادة عند الحديث عن مؤسسات المجتمع المدني الدولي هي شرعية نشاطها ومدى قانونيته، ودرجة تعارضه مع مبدأ أصيل من مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وهو عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، فعدم تنظيم أنشطة هذه المؤسسات على المستوى الدولي أثارت مواقف حكومات عديدة في العالم لأنها في بعض الحالات تجاوزت الأنشطة العادية التي يمكن أن تؤديها مؤسسات المجتمع المدني الدولية، وتحولت إلى شكل من أشكال التدخل في الشؤون الداخلية لدول عدة. ولا يزال الجدل مستمراً حول مشروعية نشاط هذه المؤسسات، وتأثيرها على سيادة الدول، ومن الصعوبة حسم هذا الجدل في ظل غياب تنظيم المجتمع المدني الدولي ومؤسساته رغم محاولات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة والعديد من الحكومات الدفع باتجاه تنظيم هذه المؤسسات.