كتب – جعفر الديري: جسد نحيل، ووجه متغضن، وعينان أضناهما السهر. هكذا بدا أنطون تشيخوف الكاتب الروسي في فيلم (Chekhov and Maria ) الذي عرضته قناة (MBC Max) مؤخراً، أما الشخصية الثانية في الفيلم فهي ماريا؛ أخته الأكثر حيوية منه، ظاهرياً وكانت تعاني من نفس ممزقة لا تستقر على حال. على النقيضهذا الفيلم من بطولة: رون بوتيتا، وجيليان براشير، وكاثلين جاتي. وتدور أحداثه "حول الكاتب المسرحي الروسي الشهير أنطون تشيخوف، الذي يصاب بمرض السل أثناء قيامه باستكمال مسرحيته الأخيرة "بستان الكرز”. يشتد المرض بتشيخوف فيسكن في مالطا مع أخته ماريا، التي تلعب دوراً بارزاً في مساعدته على تحدي هذا المرض لمواصلة الكتابة واستكمال تحفته الفنية، لكنها عندما تكتشف أنه قد تزوج الممثلة أولغا كنيبر. تحاول بشتى الطرق منعه من مغادرة مالطا والعودة إلى موسكو؛ إلا أنه يكتشف كل تلاعباتها لمنعه من السفر، فيقرر تجميع قواه لمواجهتها بكل ذلك”. الكاتب الكهللقد بدا تشيخوف كغيره مع الناس، يتألم، ويرتكب أخطاء عدة، يطلق كثيرا من الكلمات دون تمعن، لكنه أيضاً، كبير في أحلامه، وشغفه بالكتابه، ورغبته في إنتاج الأفضل. لقد صور الفيلم، جانباً من حياته، معترفاً بأخطائه، في وطن لا يخجلون فيه من سيرهم الذاتية، فيما نحن، نحاذر أن يقترب أحد من حياتنا وأخطائنا التي ربما لا تقارن بأخطائهم الكبيرة. تشيخوف الكهل، مولع بأولغا الممثلة المسرحية، متعلق بها إلى الدرجة التي تشعل باله ليلاً نهار، يذكرها في كل آن، إنه يحبها حباً جماً ويحترمها أيضاً، فهناك لغة مشتركة بينهما هي لغة الفن الراقي، تحب فنه كثيراً ويحب أداءها كثيراً، إنها تجسد شخصيات يجهد في صقلها ليل نهار، تشغله طوال اليوم، يبث فيها من حلمه الكثير ومن آماله أكثر. زوجته التي يهواها بعيدة عنه، ينتظر أن تلد ولده، إنه يحبها لأسباب عدة، لأنها فنانة قادرة على أداء شخصيات مسرحيته "بستان الكرز” بالصورة التي يرغب فيها، كما إنها قادرة على فهمه وهي تقدر كثيراً، وهي زوجته التي تحمل بذرته، طفله الذي يتمنى أن يراه وأن يعيش معه ومعها. ماريا إنسان آخر ذلك تشيخوف، لكن ماريا شيء آخر، إنها امرأة أنانية، تريد الاستئثار به إلى درجة التضحية بأولغا، لقد تسبب تشيخوف ببروده في ابتعاد حبيبها، وقد فضلت رعاية تشيخوف عليه، إذاً عليه دفع الثمن. إنها لا تعترف بأخطائها، بل تبرر ما تفعل، فهي تخفي عنه رسائل أولغا، كما إنها تخفي الشموع، وتعطي الزيت أحد الشبان، تبرر كل ذلك بحبها لتشيخوف.ماريا ترى نفسها الجديرة بأخيها تشيخوف، لقد رعته وساهمت في توفير كل ما يحتاجه لكي يبدع، فما باله لا يعترف بفضلها، بل يردد اسم أولغا دائماً أمامها، إنها بعيدة عنه، لا تستطيع فهمه، بل إنها لا تحبه وتسعى لأذيته، تهوّن من مرضه، وتبعث له بوصفات طبية تزيد حالته سوءاً وتنتهي بإصابته بذات الرئة، أليس في ذلك دليل على كرهها له وأنانيتها، في حين هي أخته التي لا تقوى على فراقه، تنتظر أن تأتي أولغا لتطردها من البيت وتستولي على كل ما فيه ومن فيه وهو أخوها تشيخوف. انسجام ذهني أداء الفنان رون بوتيتا، يستحق الإكبار، لقد أشعرنا بصعوبة التمييز بين تشيكوف الحقيقي، والممثل الذي يؤدي دوره، إن هناك حالة من الانسجام بين ما تجسّد في الذهن من صورة لتشيخوف، وبين شخصية مجسّدة على الشاشة... الجسد النحيل المريض، العينان اللتان تغالبان المرض، الحركات التي تشي بما يعتمل في القلب من تمرد، من شوق عارم للقاء أولغا، تقابلها برودة تجاه أخته ماريا. أما ماريا "جيليان براشير” فقد أشعرتنا بالخوف الذي يضج به قلبها، بأنانية المرأة حين تود الاستئثار بشيء، أقنعتنا بالألم حين يتجسّد في تعابير الوجه، حزن يمتزج بالإكبار لتشيخوف الأخ والكاتب العظيم.