أكد الباحث في الاجتماع السياسي د.عمار علي حسن أن الحوار السياسي البناء والناجح لا يتحقق إلا في ظل تحقيق التكامل الوطني الذي يقوم بدوره على فكرة الاندماج السياسي الذي يبنى على الطوعية والعدل والتفاف الجميع حول مشروع سياسي، وقال: "لا توجد دولة واحدة في العالم تتمع بتجانس اجتماعي تام، فكل الدول تكونها أشتات من البشر، وإن لم تكن قبائل فهي طوائف أو أعراق أو طبقات أو مذاهب أو شرائح أو لغات ولهجات مختلفة، وكذا تعدد الهويات والثقافات الفرعية داخل كل ثقافة أصلية، لذلك نجد أن الدولة الأقوى عسكرياً واقتصادياً في عالمنا المعاصر، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، عبارة عن متحف أجناس بشرية”. جاء ذلك في ورشة عمل نظمها مؤخراً معهد البحرين للتنمية السياسية بعنوان "الحوار السياسي والتواصل مع الآخر”، ضمن برنامجه لتعزيز ثقافة الديمقراطية حضرها عدد كبير من مختلف فئات المجتمع.وضرب د.عمار مثلاً ببعض الدول الديمقراطية التي تمتلك قدرة فائقة على تذويب أشتاتها عند الحد المناسب الذي يضمن التعايش ويعززه، ويحول الاختلاف إلى تنوع خلاق عبر الحوار السياسي البناء، في حين توجد دول أخرى على العكس من ذلك تماماً وتفشل في تحقيق "التكامل الوطني” بين الجماعات التي تكونها.الاندماج السياسيوتحدث د.عمار عن شروط الاندماج السياسي قائلاً: "تعد الطوعية إحدى شروط نجاح الاندماجات السياسية، فالاندماجات التي تتم قسراً لا يمكنها أن تعيش طويلاً، لأنها تحتفظ طيلة الوقت بعلاقات تهبط وتعلو بين الجماعات المندمجة رغماً عنها، ومثال ذلك الاتحاد السوفيتي السابق الذي قام على ضم قوميات وعرقيات وأصحاب ثقافات وديانات بالقوة المسلحة ضمن كيان إمبراطوري كبير ما إن تراخت قوته حتى تفكك إلى دويلات عدة”.وقال د.عمار إن الخصائص البنيوية المشتركة التي تتوزع على مسارات متعددة تؤدي جميعها إلى تماسك التيار الاجتماعي العريض، ومنها ما يتعلق بالقيم الاجتماعية السائدة والمتوارثة والتي إن تجددت لا تخل بهذا التماسك ولا تهزه فجأة، ومنها ما يرتبط بالثقافة التي تحكم الأذهان والأفهام وتصقلها وتحدد السلوك وتعينه، فهذه الثقافة يمكنها أن توظف لبناء الوعي الذي يؤسس للتعايش وقبول الآخر من حيث المنشأ، ثم يفتح الطريق أمام البحث الدائم عن الانصهار الوطني.وكشف أن الأبنية السياسية بوسعها أن تلعب الدور الأكبر والأهم في إيجاد تلاحم بين أبناء الوطن الواحد، مهما توزعت هوياتهم على اتجاهات عدة، فالأحزاب السياسية والبرلمانات يمكن أن تكون في الدولة الديمقراطية معامل لصهر أتباع مختلف الهويات ودفعهم في سبيل إيجاد حلول لمشكلات تواجه المواطنين كافة، وتشريع ما يخدم الجميع.الدستور والاندماجوأوضح الباحث أن الإطار العادل في المجتمع والمتمثل في الدستور هو أحد شروط تحقيق الاندماج السياسي، فالدستور الذي يحكم التصورات والممارسات داخل الدولة يجب ألا يفرق بين المواطنين على أي من الاختلافات القائمة بينهم، بل تسوي نصوصه بين الجميع في الحقوق والواجبات، لافتاً إلى أنه لا يجب الاكتفاء بالنصوص التي تقيم العلاقة بين المواطنين على أساس التساوي والتماثل، بل من الضروري أن تنتقل هذه النصوص إلى عالم الواقع، فتتحول من مجرد سطور إلى سلوك وتدابير.وأكد أن كل ما سبق يعززه وجود مشروع سياسي وحضاري مشترك يتحلق حوله الجميع ويعملون من أجل نجاحه، بما يؤدي إلى التفاف الناس حوله، شريطة أن يكون حضور هذا المشروع بشكل طوعي، واشتماله على القواسم المشتركة والمصالح المتبادلة بين مختلف طوائف وطبقات وشرائح وفئات المجتمع، مما يؤدي بهؤلاء جميعاً إلى التوحد والانصهار.معنى قبول الآخرونوه د.عمار إلى أن التربويين يذهبون للتأكيد على أن "قبول الآخر” هو ثقافة تكتسب منذ الصغر، وأنه يمكن تنمية فهم الطفل للآخرين من خلال تقدير الآخرين عبر تمييز وقبول الاختلافات معهم، وتمييز القدرات والمواهب الخاصة، والأداء المتميز لديهم، إضافة لفهم مشاعر الآخرين من خلال تمييز واحترام مشاعرهم واحتياجاتهم، وفهم تأثير تصرفات الشخص على مشاعر وسلوك غيره، وأشار إلى أن فضيلة قبول الآخر تتحقق من خلال مهارات العيش في جماعة، وتتمثل في القدرة على التفاهم مع الآخرين، والتعاون داخل جماعة إنسانية رئيسة أو ثانوية، والقدرة على الدخول في صداقات، وإمكانية التشارك مع الآخرين أخذاً وعطاء، وتمييز مزايا العمل مع الآخرين، وفهم وتلمس الاحتياج للقوانين والاتفاقات، بعد امتلاك القدرة على وضعها أو سنها ثم الامتثال للعيش في ظلها، وكذا تعلم فض المنازعات الذي يتم عبر تنمية الحلول الملائمة لحل الخلافات، وضبط النفس في التعامل مع الآخرين.قيم الحوار وكشف د.عمار عن القيم المرتبطة بثقافة قبول الآخر، وتتمثل في التسامح، وهو صورة التكيف التي بمقتضاها تميل الجماعات المتعارضة إلى الانسجام المتبادل، وتحاشي الصراع للتوصل لحل عملي، في ظل مبدأ عدم التدخل في معتقدات وتصرفات الآخرين التي لا يحبذها المرء، وهو ما ينطبق عليه المثل البسيط عن التسامح وهو: "عش واترك الآخرين يعيشون”.وأشار إلى أن المساواة واحدة من أهم قيم الحوار وقبول الآخر، وهي بمثابة الضلع الثالث في مثلث القيم العظيمة، حيث تشكل مع الحرية والعدالة، المثل العليا التي يصبو البشر إلى تحقيقها منذ أول الخليقة، وهي قيمة مهمة في حياة النظام الديمقراطي، وهي تعني وجود حالة من التماثل بين أفراد المجتمع أمام القانون، بغض النظر عن الميلاد أو الطبقة الاجتماعية أو العقيدة الدينية أو الثروة أو الجنس أو المهنة.