كثر الحديث عن موضوعة النظام الدولي القائم، أو الذي هو في طور التشكل، والذي يحكم مسار العلاقات الدولية البينية فيما بين القوى الكبرى، وبينها وبين دول العالم الأخرى، فبعد أن أشار هنري كيسنجر وزير الخارجية الأسبق في وقت سابق من الشهر الماضي، إلى أن العالم ما زال محكوماً بالنظام الدولي الذي فرضته أوروبا عليه منذ عام 1648م، متجاهلاً عن عمد ما شهده العالم من تحولات في مراكز القوى بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية.وبعد كيسنجر جاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ليدلي بدلوه جرياً على قاعدة "تشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم” ليطرح رؤية روسية جديدة للنظام الدولي الراهن، فقال إنه يمر بمرحلة إعادة تشكل مرة أخرى فاتحاً الأبواب على احتمالات نشوب نزاعات وصراعات معظمها على المصالح المتصادمة، وقليل منها لأسباب أيديولوجية.ولاحظ المراقبون أن لافروف تعمد إهمال ما للتاريخ القريب، أي قبل انهيار بلاده من قبل أن تلغي اسمها القديم، حيزاً في معادلة نظام دولي استمر من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط جدار برلين، ويبدو أن لافروف الذي ينتمي إلى بلد كان لوحده يكافئ التحالف الغربي بكامله، أصبح ميالاً إلى افتراض أن هزيمة المشروع الأمريكي في العراق، وتحقيق إيران لضربة حظ نادرة في العراق على حساب الاحتلال الأمريكي، ظنها ستكون ضمن الرصيد الروسي المفترض استخدامه في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، لتحسب مع الدور الصيني بالنتيجة النهائية، في إرساء قاعدة القطبية الثانية في محاولة لإنزال أمريكا عن كرسيها، وهذه المراهنة ترمز إلى حالة العجز التي تستشعرها روسيا من قدرتها الذاتية على النهوض من دون رافعات إقليمية مشاكسة، أو قوى اقتصادية دولية تبدو كجرافة هائلة تكتسح كل ما يقف في طريقها.السلاح الروسيولكن لافروف والزعامة الروسية، يسعيان لتحقيق قفزة روسية استراتيجية من دون تقديم خسائر سياسية وعسكرية واقتصادية، في معركة حامية أعدت مسارحها على أراضي أطراف ثالثة وتخوضها جيوش نظامية وغير نظامية، لا وجود فيها لحملة الدم الأزرق والشعر الأشقر من القياصرة الجدد والبلاشفة القدامى في صفوف المتقاتلين، وإن كان السلاح الروسي بصادراته الرسمية أو عبر سماسرة السلاح في السوق السوداء، ما زال يشكل مادة المعارك الرئيسة في مختلف ساحتها، لدى جميع المتحاربين بجميع مللهم ونحلهم وسحناتهم والشعارات التي يرفعونها، حروب خلّفت دماء كثيرة في ساحاتها المختلفة، وما تزال من دون وجود مؤشر على قرب نهايتها.حديث لافروف يحمل آمالاً شخصية أكثر مما يعكس حسابات استراتيجية، قادرة على فرز توازنات جديدة تطيح بحالة الاستقطاب القائم، والذي ظلت الولايات المتحدة الأمريكية تتمتع به منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وأخلت لها الساحة الدولية، لمزيد من المغامرات الطائشة التي جاءت نهاياتها مخالفة تماماً لبدايتها، ويبدو أن حالة انعدام الوزن التي عانى منها العالم منذ 1989م، وهي سنة جلوس أمريكا على كرسي البابوية المدببة، كانت أقصر عرس نصر لأية إمبراطورية في التاريخ، وإذا كانت الإمبراطوريات السابقة سقطت نتيجة لصعود إمبراطوريات فتية وجديدة، فإننا يمكن أن نسجل ملاحظة استثنائية على زمن التراجع الأمريكي، وهي أن أمريكا بدأت بالتآكل من داخلها وهي في أوج قوتها، وبدأت تفقد وهجها وهي تتمدد عسكرياً على أوسع مساحة جغرافية في تاريخها، إذ أضافت إلى رصيدها القديم كلاً من أفغانستان والعراق، وكانت بعد احتلال العراق على وشك أن تنجز الصفحة الثانية من مشروع الشرق الأوسط الكبير باحتلال إيران وسوريا، مستغلة حالة الانكسار النفسي والانهيار المعنوي، التي سادت كثيراً من دول العالم وخاصة روسيا والدول المحيطة بالعراق أو على مقربة منه، انبهاراً بالإنجازات السياسية والعلمية والعسكرية التي أعقبت انهيار المنظومة الشيوعية فيما بعد ردة الفعل المنفعلة والفورية من دون تحكيم للمدارك العقلية، على أحداث 11 سبتمبر 2001 والتي هزت المجتمع الأمريكي من الجذور، فكان لا بد من البحث عن فعل يعيد للمواطن الأمريكي إحساسه القديم بالتفوق، وأن بلاده ذات جدران عالية وعصية على القفز فوقها وتحميها شواطئ طويلة، فكان احتلال أفغانستان والذي لم يواجه بردة فعل فورية من جانب الشعب الأفغاني كما كان مرجواً، وهو ما وفر إغراء العودة إلى المنطقة وتنفيذ الصفحة الثانية من خطة الانتشار الأمريكي، فكان احتلال العراق، نتيجة طبيعية لإحساس طاغ بالقدرة على سحق القوى الأخرى، ودفع إغراء القوة المتعاظمة والتي لا راد، لها دفع باليمين الأمريكي الجديد إلى وضع خطة القرن الأمريكي الخالص من أية شائبة لمنافس آخر، لكن احتلال العراق كان موضع الانكسار المؤكد للقوة الأمريكية التي خرجت من المعادلة من دون أسنان، بعد أن ظلت تراهن على أنه موضع الانتصار الحاسم والنهائي المفترض، فقد واجهت الولايات المتحدة الأمريكية في غزوها للعراق، كارثة لم تتمكن جميع أجهزة الكومبيوتر المعقدة ومن أحدث الأجيال الداخلة في الخدمة التكهن بمداها وغاطسها الحقيقي، وتفاقمت الأزمة الاقتصادية لتعيد إلى الذاكرة زمن الكساد الكبير.الإيرانيون متعطشون للثأرأرادت الولايات المتحدة الأمريكية أن تجعل من العراق منصة انطلاق لقرنها الجديد نحو الآفاق التي لم تكن استكشفتها بعد، ولتعزز من مكاسبها التي تدفقت عليها بعد أن جلست على كرسي القطبية الواحدة التي ظنتها مطلقة وطويلة الأمد، حتى في حال عدم بذل جهود ميدانية لتحقيقها فالانبهار العالمي بسرعة الاحتلالات لم تترك مزيداً من الوقت للبنتاغون كي تعيد النظر ببرنامج إعادة انتشار قواتها على مسطح المواجهة، ولكن قوة الجذب في مستنقع الوحل والدم العراقي، كانت أكبر بكثير من قوة الدفع الأمريكية، إذ استطاعت المقاومة العراقية المسلحة أن تفاجئ القوات الأمريكية بتكتيكات لم يدرسها القادة الأمريكيون في كلية ويست بوينت، بحيث حولت الحلم الأمريكي إلى كابوس مرعب وبصور أكثر إثارة من أفلام هوليوود، فتم تقليب الخطط البديلة التي تبحث عن أقرب فرصة للإفلات من أكبر كمين تم إعداده بإحكام، فأرادت الانتقام من العراقيين بتسليم بلدهم جاهزا على طبق من دم للإيرانيين المتعطشين للثأر لأنفسهم، من البلد الذي جرعهم كأس السم في حرب الثماني سنوات، ويبدو أن حقبة سقوط التجربة السوفيتية، أعطت للولايات المتحدة الأمريكية إحساساً جارفاً بالقوة القادرة على تحقيق جميع أهدافها دفعة واحدة، وبالمقابل فقد وضعت شعوب كثير من البلدان، يدها على قلبها ترقباً للخطوة التالية وتحسباً لموضع الضربة الأمريكية المقبلة، فإذا كان الاتحاد السوفيتي مع ترسانته النووية كلها، بناء فوق الرمال أو فوق الثلج، وانهار في مواجهة سلمية أنهكته اقتصادياً وفرضت عليه إعلان هزيمته، فماذا يمكن أن تفعل شعوب بلدان كانت تعتمد على الدعم السوفيتي في خطط التنمية الاقتصادية، وفي برامج التسليح، وفي التأييد السياسي في المحافل الدولية، وخاصة في مجلس الأمن، إذ يتربص الفيتو السوفيتي لأي مشروع قرار تظنه موسكو متعارضاً مع مصالحها هي بالذات؟ كان الهلع نشر أجنحته فوق الجهات الأربع، من الخطوة أو الخطة الأمريكية المقبلة وتوقيتها ومكان سقوط قذائفها، وخاصة بعد غزو أفغانستان والعراق، فسارعت دول كثيرة إلى تقديم كشوف بتفاصيل برامجها السياسية والعسكرية، حتى من قبل أن تطلب واشنطن منها ذلك، وعكست تلك الحقبة أسوأ مراحل القلق الجماعية التي مرت بها أمم الأرض من دون استثناء.حروب النيابة نعود إلى حديث لافروف الذي يحمل قلقاً أكثر بكثير مما يحمل ثقة بالنفس، وربما طموحاً شخصياً مستقبلياً ليكون سيد الكرملين، ولو حاولنا تلمس مصداقية التوصيف الذي أطلقه لافروف، فإننا سنجد أنفسنا إزاء حروب بالنيابة تريد روسيا أن تخاض نيابة عنها، لاستكمال الإجهاز على الإمبراطورية الأمريكية المترنحة، وبدأت مؤشراتها تطفو على السطح، وكالعادة في معارك الكبار كلها، فإن للعرب فيها النصيب الأكبر من اختبار أسلحة في معارك هم الخاسرون على الدوام فيها أياً كان المنتصرون، ويبدو أن الأرض العربية ستبقى على الرغم من تبدل نوعية القوى الضالعة في حروب النيابة، وتغير شعاراتها، ساحة مفضلة لتصفية حسابات قديمة أو مستحدثة، الهدف منها "وحتى يتم التأكد من إمكانية التوصل إلى بديل لمصادر الطاقة” الهيمنة على السياسة النفطية بحلقاتها كلها، من الخطوات الأولى للاستكشاف، إلى أن يصل إلى المستهلك بصفة مشتقات نفطية أو طاقة كهربائية أو منتجات بتروكيمياوية.إيران مجنون الحيلا أحد يجادل في حق روسيا بأن تستعيد مركزها المفقود، كقوة سياسية وعسكرية في مواجهة الولايات المتحدة، ولكن الوزير الروسي على ما يبدو وعلى الرغم من سنوات عمله الطويلة هو ورئيسه بوتين في جهاز الاستخبارات السوفيتية KGB، لم يلتقط خيوط اللعبة الدولية الجديدة كلها، كما ينبغي، فاستعاد الأساليب القديمة التي دحرجت موسكو عن القمة التي كانت عليها، باعتماد أسلوب حروب الوكالة، لأنها أقصر الطرق المحققة للأهداف السرية والمعلنة على الرغم من أنها تقيم حواجز عالية من الكراهية والشك بين القوى الكبرى والدول الصغيرة، لأن الدول الكبرى تريد تحقيق غاياتها بأقل الخسائر، فبندقية الكلاشينكوف التي خرجت من خدمة الجيش الروسي الجديد، ما تزال تنتج على نطاق واسع في مصانع السلاح الروسية، لتغذية الحروب الشرعية وغير الشرعية، بل وفي حروب الجريمة المنظمة، وبين مافيات تهريب المخدرات، وحتى الحروب العنصرية والجرائم ضد الإنسانية، ولكن لافروف حينما يقترح إيران للمشاركة في الاجتماعات الدولية التي تسعى لإيجاد مخرج للأزمة الداخلية في سوريا، أو في أي محفل إقليمي دخل على خط التدويل، فإنما يعني أن روسيا تريد أن تعطي إيران ملفاً تقايض به ملف برنامجها النووي، والاعتراف بها قوة مهيمنة استناداً إلى مذهب ولاية الفقيه على كل من أفغانستان والخليج العربي والعراق، وبعد أن تكرس هذه المكاسب تنطلق نحو البحر الأحمر وشواطئ المتوسط، لتشعر العالم أنها قدمت تنازلات لم تكن لتقدم عليها، لولا رغبتها في مساعدة العالم على الوصول إلى ما يريد عبر تفاهمات دولية وإقليمية، لم يكن ممكناً الوصول إليها لولا الدور الإيراني المتعاظم، كما تحاول موسكو تسويق دور إيراني يفوق قدراتها الحقيقية، ويواجه برفض إقليمي جماعي، كما أنها لا تريد مواصلة مواجهتها مع المجتمع الدولي كطرف معارض يتبنى مواقف حول كل ما يطرح في المنتديات الدولية من قضايا لها إسقاطاتها الضارة على أمن المنطقة واستقرارها، وتثير ردات فعل صاخبة من الأطراف المعنية بملفاتها، ليتماهي مع مواقف دول أخرى تقف في مواجهة الموقف الروسي، بالقدر نفسه من القوة ولكن بالاتجاه المضاد، يحاول سيرغي لافروف أن يأتي بمجنون الحي (إيران)، ويجلسه على كرسي أكبر منه ويضعه في موقف الناصح الحكيم، وهو العاجز عن التصرف بحكمة في القضايا التي ترتبط به أصلاً، وليتركه يعبث بعقول الحاضرين، وبذلك يستكفي الروس بمعارضة إيران وتقف روسيا لتقول: (لا مانع لدي ولكن عليكم أولاً إقناع إيران)، وإيران تضع أمام عينها كيف تتحول إلى قوة إقليمية كبرى، وتسعى لتوظيف الوضع الجديد نحو العالمية.من يقترح إيران لتكون طرفاً في قضية لا تعنيها بصفة مباشرة، عليه أن يعد نفسه لقبول دورها حتى في تحديد طبيعة نظامه السياسي والاجتماعي، وحجم قواته المسلحة وأعداد الجنود والطائرات والدبابات ونوعية الملابس، وربما ستتدخل في أصناف المائدة اليومية، وما عليه أن ينتج من محاصيل زراعية أو سلع صناعية، وإذا كان الروس يظنون أنهم يستخدمون الورقة الإيرانية من أجل إحراج الولايات المتحدة مما قد يضيف إلى رصيدهم الإستراتيجي، نقطة إضافية في لعبة ليّ الأذرع، فإن إيران ستنظر إلى ذلك على أنه اعتراف دولي بها كقوة شقت طريقها بنفسها وأنها لم تكن تحتاج إلى من يمهد لها طريقاً ظل ينتظرها. ما سيضاف إلى رصيد إيران سيفتح شهيتها بقوة للعبث بأمن الخليج العربي بشكل خاص، بوساطة الخلايا النائمة التي تنتظر كلمة السر الصادرة من طهران، وما عثور قوات الأمن البحرينية على خمسة أطنان من المواد المتفجرة في أوكار العناصر الإرهابية المرتبطة بإيران إلا الدليل القاطع على سادية القتلة، فهل يحتاج بلد بمساحة البحرين إلى هذا الكم الهائل نسبياً من أدوات القتل والتدمير؟ وماذا كان يحصل لو أنها وظفت في الأهداف التي جيء بها عبر مياه الخليج العربي من أجل تحقيقها؟ ومن هي الجهة التي استطاعت توفير هذه الكمية المذهلة من أدوات الموت؟ لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك إلا الدول.الملفات المؤجلةإيران تنتظر فرصتها للوثوب إلى الملفات الإقليمية، لتشهرها سلاحاً بوجه روسيا عندما تحين الفرصة، وفي الوقت الذي تختاره هي بنفسها، فما أكثر الملفات الثنائية المؤجلة بانتظار امتلاك أدوات التأثير على الموقف الروسي، سواء ما يتعلق بثروات بحر قزوين من نفط وغاز، وكذلك على حقوق الملاحة في هذا البحر المغلق، والذي تحتكر روسيا فيه حرية التنقل لسفنها وتمنع ذلك عن الدول المتشاطئة عليه وخاصة إيران، وكذلك حقوق الصيد والتنافس على إنتاج الكافيار، وملفات مؤجلة على نار هادئة، سيتم تسخينها حينما تتحرر إيران من الضغوط التي تتعرض لها بسبب برنامجها النووي، فإنها ستصرف معظم جهدها لإضعاف موقف روسيا التفاوضي معها بشأن الملفات الثنائية، تظن إيران أنها بما ترفعه من شعارات إسلامية، قادرة على التأثير على أوضاع القوقاز والأقاليم الإسلامية المضطربة، والتي ما زالت ضمن أراضي روسيا الاتحادية وتعاني من تمييز إذا ما قورنت مع الأقاليم الروسية الأخرى، على الرغم من أن نزاعها مع أذربيجان الشيعية لا يسمح لها أن تطرح نفسها ناطقاً باسم المسلمين.مصر وإيران والزعامة مع كل ما يستشعره القوميون من خطر على الأمن القومي العربي، في حال حصول خديعة إيرانية في مصر في جمهوريتها الثانية، لكن نقاط التصادم بين الموقفين الإيراني والمصري تبرز على السطح بوضوح، ويمكن أن يكون في مقدمتها الثقل التاريخي والموقع الاستراتيجي لمصر، ودورها في حركة التحديث التي عاشها الوطن العربي، ذلك كله لا يعطيها الحق في التخلي عن دورها كقوة عربية وقوة أفريقية كبرى، لصالح أي طرف أياً كانت شعاراته المرفوعة، فوجود الأزهر في مصر كمصدر إشعاع إسلامي دينياً وفكرياً، لا يسمح لإيران بابتلاعها، على الرغم من ضعف الحصانة التي تتميز بها جماعة الإخوان المسلمين، منذ بداية تأسيسها، تجاه الحركات الشعوبية التي تريد الإجهاز على العروبة باسم الإسلام. إيران تخطط بعد أن تستكمل هذه المهمة للانتقال إلى الصفحة اللاحقة، وهي حصر الإسلام في تفسيرات ضيقة وصراع الهويات الفرعية طائفياً ومذهبياً، ودفعه إلى الدفاع عن نفسه داخل الأرض التي انطلق منها أول مرة، حتى وصل إلى فارس، وهي بذلك لا تريد أي نوع من الحوارات الفكرية، بقدر ما تسعى إلى إثارة الفتن والانقسامات الداخلية في كل مجتمع من المجتمعات العربية والإسلامية، فأجواء كهذه هي فرصتها للتسلل وتقمص شخصية المصلح في أزمات ما كان لها أن تبرز لولا الدور الإيراني نفسه.وهناك الملف السوري الذي يعد نقطة الاختلاف الرئيسة بين جماعة الإخوان المسلمين في مصر خصوصاً، ومواقف دول ما يسمى بالربيع العربي والتي باتت تحكمها قوى إسلامية، وتجاهر بدعم مفتوح لما تعدّه انتفاضة شعبية سورية، مع الموقف الإيراني المنحاز سياسياً والداعم اقتصادياً وعسكرياً لحكومة الرئيس بشار الأسد، بسبب القراءتين المتصادمتين للمشهد، مما يضفي حصانة مؤقتة على الأمن القومي العربي، بوجه محاولات الاختراق والتسلل الإيرانية، مما يستدعي التعامل مع الملف المصري بعد انتخابات الرئاسة بحسابات الأمر الواقع ليس بمعنى القبول به كما هو، وإنما بمعنى التعامل بلغة الصفحات المتعددة التي تمنع دخول الغرباء المخربين، من أجل سد الطريق على إيران ومنعها من التسلل عبر ثغرات المشهد السياسي العربي، عن طريق تقديم القروض الهادفة إلى أعلى استثمار سياسي، في الدول التي مرت بأجواء عدم الاستقرار السياسي، مما أدى إلى تلكؤ عجلة الاقتصاد الوطني كما هو حاصل الآن في مصر التي تعاني من فقر مزمن وتحتاج إلى مشروع مارشال عربي ينتشلها مما هي فيه، ولإيران في مثل هذه الأجواء أياد عابثة وبرامج لا تريد التوقف عند حد، فمن المعروف أن المصريين يواجهون ظروفاً معاشية صعبة، معظمها موروث من حكم الرئيس السابق حسني مبارك، وكما حاولت إسرائيل توظيف الحالة المعاشية لكسب الأنصار والأصدقاء بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، فإن إيران تتحين الفرصة كقط أنهكه الجوع، للانقضاض على فريسة سائبة، وهذا ما حصل في حركة استعراضية عندما وجهت الدعوة لأسر ضحايا الاحتجاجات، إلى زيارة إيران وإطلاعهم على أفضل ما لديها من صور سياسية ودينية مرتبة.مصر التي هي جزء من منظومة الأمن القومي العربي، والقوية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، رصيد نوعي مضاف إلى قوة العرب، والأمة العربية عانت طويلاً من سياسة المحاور، التي كانت انعكاساً للانقسام العالمي إلى معسكرين، ولا أحد يشك في أن تفعيل الاتفاقيات العربية الجماعية، مثل اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية ومعاهدة الدفاع المشترك، تحتاج إلى أموال أقل بكثير مما لو رصدت لتصفية الحسابات القديمة أو لحل المنازعات السياسية على من يقود، فالساحة العربية تستوعب جميع الأدوار إذا ما وضع العرب الخطرين الإسرائيلي والإيراني نصب أعينهم على مدار ساعات اليوم، ومن ثوابت الأمة أن وجود مصر جزءاً من الرصيد العربي ليس منة منها على العرب بقدر ما هو مصلحة مشتركة لمصر والأمة معاً، وتعرض النضال القومي بعد خروج مصر من المعارك العربية القومية وفي مواجهة إسرائيل بنحو خاص، إلى إصابة الأمن القومي العربي بثلمة لم يتخلص من آثارها حتى اليوم.كنت أتطلع لأن ينهي الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، مظاهر الفوضى في الشارع المصري، ويحث المصريين على التفرغ للعمل الجاد، بدلاً من التكدس الذي خرج عن أهدافه في ميدان التحرير، ولكنني لم التقط من ذلك المعنى شيئاً لا بالتصريح ولا بالتلميح.درس من التاريخ القريب حرصت القوى الدولية على وضع الوطن العربي في خط تقاطع المصالح الاستراتيجية، للمعسكرين أثناء الحرب الباردة، وكان العرب على الدوام ضحية في حال التوافقات بين القوتين العظميين، أو في حال اشتداد الصراع بينهما، إذ شهد ميناء فيلاديفوستوك في أقصى شرق الاتحاد السوفيتي السابق عام 1974م، أخطر اجتماع بين الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف، والرئيس الأمريكي جيرالد فورد، وهو أول رئيس أمريكي غير منتخب لا كرئيس ولا كنائب للرئيس، بعد عزل الرئيس ريتشارد نيكسون بسبب فضيحة ووتر غيت، في حين أن نائب الرئيس المنتخب سبيرو أغينيو، كان أجبر على الاستقالة بدور من اللوبي الصهيوني لاتهامه بعلاقات غامضة مع المملكة العربية السعودية يمكن أن تلحق ضرراً بالأمن القومي الأمريكي، كان الاجتماع مكرساً لوضع رقابة مشتركة على توريدات السلاح إلى منطقة الشرق الأوسط، بصفتها المنطقة الأكثر توتراً في العالم على وفق الرؤية الأمريكية السوفيتية بعد مشكلة برلين، ومرد خطورة هذا الاجتماع أنه تم بعد حرب أكتوبر، لأن الولايات المتحدة الأمريكية رأت أن صفقات السلاح السوفيتي إلى البلاد العربية باتت تشكل خطراً على الميزان العسكري مع إسرائيل مما فرض على الولايات المتحدة الأمريكية، إقامة جسر جوي هو الأكبر في التاريخ حتى ذلك الوقت، لإمداد إسرائيل من الخزين الاستراتيجي في المستودعات الأمريكية في وسط أوروبا، وهو الأمر الذي أدى إلى إطلاق الجنرال جورج براون رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، تحذيرات ممتعضة في جلسة خاصة، أبدى فيها مخاوفه من تعريض أمن التحالف الغربي للخطر نتيجة الجسر الجوي، تلك التعليقات كانت سبباً في إجبار براون للاعتذار لإسرائيل علناً عن تعليقات سرية، ولكن نيكسون لم يكتف بذلك، بل قال له بلغة آمرة: أتوقع أن أجد استقالتك صباح الغد على مكتبي، وهذا ما كان، وعدّت نتائج الاجتماع بمنزلة تراجع سوفيتي عن تعهداته للبلاد العربية، بل وحتى إعادة نظر في صفقات تم عقدها في أوقات سابقة، على حين أن الولايات المتحدة الأمريكية التي فرضت هذا الموقف على موسكو، قدمت تنازلات إلى الاتحاد السوفيتي على محور سباق التسلح بين الجانبين، لأن السوفييت كانوا يمرون بأزمة اقتصادية بسبب ذلك السباق، والذي لم تعد لهم طاقة على مواصلته، وأدى إلى عجز سوفيتي عن مواكبة فصوله المكلفة وهو ما ظهرت تداعياته في غضون سنوات معدودة.