ميدل ايست أونلاين: لا مشاحة في الأمكنة حين تتلبس تلك الأرواح الطيبة بأجساد المبدعين تملك عليهم حواسهم وأنفاسهم. هي "أرواح هائمة” بتعبير الروائي المغربي الخضير قدوري، تبحث عن أجساد "تسكنها”.. ربما لأن "قدر المبدع أن يولد مبدعاً” كما كان يردد المبدع عبدالكريم برشيد دائماً. ولأن الإبداع رحب رحابة الأرض والسماء فإنه يضيق بالأمكنة وبالانتماءات الضيقة، لذلك يولد المبدع مبدعاً، أينما كان في بركان شأن برشيد، أو في تاوريرت شأن قدوري. «لا مشاحة في الأمكنة» «لا مشاحة في الأمكنة” يقول الخضير على وجه الاستعارة من القاعدة الفقهية ذائعة الصيت. غير إن الكاتب، الذي هو "ابن بيئته” قبل أي شيء، لا يستطيع سوى بقدر معلوم أن يتحرر نهائياً من سطوة الفضاءات التي شكلت مرابع طفولته ومراتع شبابه، وهو عين ما نلمسه لدى قدوري الذي تحتل تاوريرت (108 كيلومترات عن وجدة) فضاءات شاسعة في "جغرافية” إبداعه الأدبي وإنتاجه الفكري. "المكان بهذا المعنى أسلوب كتابة وحياة”. يقول الخضير الذي نشر العام الماضي خامس أعماله الأدبية "الأرواح الهائمة”قبل أن يضيف بأن الجهة التي ينتمي إليها (الشرق) تسكن كل كتاباته.. بالتفاصيل والجزئيات والطقوس والأمزجة والذهنيات. وينتمي إلى تاوريرت التي يبدو أن اسمها أمازيغي أو ذا أصول أمازيغية على الأقل مبدعون في شتى الأجناس الأدبية والفنية. غير أن فرص الانتشار تبدو ضئيلة في ظل تدني نسب المقروئية. وبالنظر إلى بعد المدينة عن المركز، فضلاً عن أسباب أخرى يضيق المقام ببسطها في هذا المكان.«دموع في عيون الحرمان»تتحرك شخوص رواية الخضير قدوري الأولى "دموع في عيون الحرمان” في حيز جغرافي يمتد من أطراف تاوريرت إلى حدود باريس لتحكي قصة واقعية بطلها أحد مهاجري الجيل الأول، بما يؤشر على انغراس الكاتب في أرضه (نواحي تاوريرت) وانفتاحه على العالم من حوله. ويعتبر قدوري أن القيم الإنسانية التي يفشيها الأدب ويبشر بها في كل مكان تتناقض مع الانغلاق على الذات. غير إنه يؤكد أن المحلية شرط أساسي لمعانقة العالمية، مستشهداً بأعمال رواد الرواية العالمية الذين أبدعوا في نقل واقع مجتمعاتهم الصغيرة إلى القراء في العالم بأسره. فضاءات الجهة الشرقيةلم يتم استثمار فضاءات الجهة الشرقية بالقدر الكافي وفق ما يؤكد باحثون، ولا تم توظيف المزاج العام لساكنتها والذهنيات السائدة بها في روايات متخيلة أو واقعية. إذ نادراً ما يكون "الإنسان الشرقي” (نسبة إلى شرق المملكة) بطلاً لعمل روائي أو مسرحي. ناهيك عن السينما التي استثمرت شخصيات "الجبلي” و«الفاسي” و«السوسي” وغيرهم دون أن تلتفت إلى "الوجدي” مثلاً. وقد كتب الباحثان محمد قاسمي وجميل حمداوي في إحدى المجلات المتخصصة، أن ما يوحد رؤية روائيي المنطقة الشرقية إلى العالم هو "ارتباطهم بمكان المولد: ذاكرة وهوية ولغة وأصالة وشوق وحنين ورفض وانتقاد من أجل غد التغيير ومستقبل مشرق أفضل”.نسبة معقولة للإصدارات ورغم كساد سوق الكتاب ومن إكراهات الطبع والنشر والتوزيع فإن الجهة الشرقية تسجل نسباً معقولة من حيث عدد الإصدارات بحسب متابعين، ولاسيما الدواوين الشعرية التي تلقى تجاوباً لا بأس به من جانب القراء، خصوصاً وأن مدينة وجدة تعد "مدينة شعراء” بامتياز. ويحكي الخضير قدوري كيف تجشم عناء الكتابة وتكاليف النشر والتوزيع "راضيا ومولها” بتعبير الشاعر محمود درويش، وأخرج إلى دنيا الناس مؤلفات عدة موزعة بين السردي والفكري، غير آبه بكل الحوائل والعوائق، تحركه طاقة هائلة لأن يقول للناس "أنا ابن هذه البلدة وهذا ما خطت أناملي”. ويضيف، بلغة الواثق: أن الزمن القادم هو "زمن الرواية”، قبل أن يستطرد بنبرة أسى واضحة "سمه هوساً أو جنوناً.. أنا أكتب عنا، نحن، هنا، وعيني ترقب الأفق البعيد. ربما حين تغرب شمسي، ستلوح في تلك الآفاق البعيدة شمس أعمالي”، مؤكداً أنه يكتب للذين سيأتون من بعدنا. من هم هؤلاء القارئون المستقبليون. وحدها روح المبدع "الهائمة”، المحلقة في اللامتناهي، بلا أجنحة تعرف الجواب.