تملك مملكة البحرين تاريخاً حافلاً من الإنجازات على الصعيد الإسكاني، لعل أهمها خلال فترة الستينيات تأسيس مدينة عيسى التي شكلت ثقلاً استراتيجياً في ذلك الوقت لاستيعاب وحدات السكن الاجتماعي للمواطنين، وأخذت تلك المدينة في الإعمار حتى أضحت واحدة من أكثر المناطق الحيوية بالمملكة.ثم جاء تأسيس وزارة الإسكان في العام 1975 نقطة انطلاق حقيقية نحو نشر المشاريع الإسكانية في مختلف ربوع المملكة، فعملت على توفير وحدات السكن الاجتماعي وسعت إلى تطويرها بمرور الزمن وبحسب الإمكانيات والمواصفات التي كانت متاحة، ولا يخفى الدور الكبير الذي اضطلعت به الوزارة في تأسيس مدينة حمد مطلع الثمانينات، كثاني أكبر المشاريع الاستراتيجية إلى جانب مدينة عيسى، وما شهدته من نهضة عمرانية أسهمت باستيعاب النمو السكاني المتزايد على وحدات السكن الاجتماعي، فضلاً عن المشاريع الإسكانية التي أدرجت في قرى البحرين ومناطقها المختلفة.تلك الإنجازات كلها وسواها الكثير، لم تكن لتكون أمراً واقعاً لولا الإرادة التي استمدتها الوزارة من الرؤية الثاقبة للقيادة الرشيدة، والبرامج الطموحة للحكومة الموقرة التي سعت ولا تزال إلى توفير سبل الراحة للمواطنين، معطية الأولوية للسكن بصفته من أهم أولويات المواطنين البحرينيين.وسعى جميع الوزراء الذين تعاقبوا على تحمل مسؤولية ملف الإسكان حتى يومنا هذا إلى توفير سكن اجتماعي ملائم يضمن الاستقرار المعيشي للأسر البحرينية، عبر نشر المشاريع الإسكانية في مختلف محافظات المملكة، إلا أن عوامل أسهمت في تراكم الطلبات الإسكانية، شأننا في ذلك شأن العديد من دول العالم، إذ تتشابه تلك الدول ومن ضمنها مملكة البحرين من حيث الفجوة ما بين المعروض من المشاريع وبين الزيادة المطردة في عدد الطلبات الإسكانية عاماً بعد آخر.ومع تسلم المهندس باسم بن يعقوب الحمر مسؤولية الملف الإسكاني، سعت الوزارة إلى إجراء العديد من الدراسات لتقييم حجم الفجوة الإسكانية، والتي على اثرها وضعت الوزارة سياسات إسكانية واضحة لتقليص حجم الفجوة، آخذة في الاعتبار جميع التحديات سواء التي تواجه المشاريع الإسكانية الحالية، أو التحديات المستقبلية خاصة وأن نسبة الشباب بالمملكة تبلغ نحو 60% وهو ما يعني أن حجم الطلب على المشاريع الإسكانية سيشهد زيادة مطردة، مما يتطلب وضع الحلول المناسبة لزيادة عدد المشاريع الإسكانية. عوامل تراكم الطلباتوتشير إحصائيات الوزارة إلى أن الحكومة استطاعت خلال السنوات الماضية أن تقدم أكثر من 90 ألف خدمة إسكانية للمواطنين، استفاد منها نحو 65? من المواطنين البحرينيين ذوي الدخل المحدود، وبتكلفة تقدر بنحو 2.5 إلى 2.8 بليون دينار بحريني، وقدمت هذه الخدمات إلى المواطنين بتكلفة مخفضة من خلال توفير الأراضي بسعر التكلفة، وتوفير القروض بأسعار فائدة تقل عن أسعار السوق.وبمرور السنوات، تزايد حجم الطلب على السكن الاجتماعي بالمملكة، نتيجة طبيعية لارتفاع نسبة الكثافة السكانية، صاحبه في ذلك بدء انحسار جزئي لمساحات الأراضي التي تصلح لبناء المشاريع الإسكانية، وأخذت الكثافة السكانية في تزايد مطرد ظهرت ذروته خلال التسعينيات والعشر السنوات الأولى من الألفية الجديدة، ومع تزايد الطلب وقلة المعروض، أخذت الطلبات الإسكانية في التراكم على قوائم الانتظار، حتى وصل العدد إلى 50 ألف طلب إسكاني، وزادت فترات انتظار الوحدات السكنية خلال العقد الأخير إلى 15 و18عاماً. وبات الملف الإسكاني من الملفات التي تؤرق المواطن البحريني، وأصبح التركيز الحكومي منصباً على كيفية إعادة التوازن من جديد إلى القطاع الإسكاني، وعمل وزراء الإسكان السابقين وصولاً إلى وزير الإسكان الحالي المهندس باسم الحمر على إيجاد الخطط والحلول لزيادة عدد المشاريع وتلبية احتياجات المواطنين الإسكانية.محاولات مستمرة ولم تنقطع محاولات الوزراء السابقين للبحث عن حلول إسكانية واستطاعوا تحقيق إنجازات كبيرة على صعيد بناء المشاريع الإسكانية، في حدود الطاقة الاستيعابية للوزارة، كما كانت الحلول الإسكانية حاضرة في العهد الزاهر للقيادة الرشيدة والحكومة، إذ تنوعت الخدمات الإسكانية التي تقدمها الوزارة، ولم تقتصر على الوحدات السكنية فقط، فقدمت الوزارة قروض البناء والترميم والشراء، فضلاً عن القسائم السكنية، وشقق التمليك، وبفترات سداد مريحة للغاية تمتد إلى أكثر من 25 عاماً، واستطاعت تلك الخدمات أن تلبي الاحتياجات الإسكانية لكثير من المواطنين، لكن العدد الأكبر فضل انتظار الوحدات السكنية، وهو ما أسهم بتكدس الطلبات أكثر وأكثر.وخلال العقد الأخير تحديداً شرعت القيادة الرشيدة ومعها الحكومة بدعم الملف الإسكاني من خلال توفير إجراءات تخفف من أعباء رب الأسرة البحرينية، إذ تفضل جلالة الملك المفدى بإصدار المكرمات الملكية السامية التي تقضي بإسقاط أجزاء من القروض والمستحقات المالية عن المنتفعين بالخدمات الإسكانية والتي بلغت قيمتها الإجمالية نحو نصف مليار دينار بحريني، كما قررت الحكومة صرف علاوة سكن للمواطنين الذين مضى على تاريخ تقدمهم بطلبهم الإسكاني 5 سنوات فما فوق، هادفين بذلك أن يسهم هذا الإجراء، إلى جانب الشقق المؤقتة، بإعانة الأسر ذات الظروف الصعبة إلى أن يتم تلبية طلباتهم الإسكانية.إيجاد حلول جذريةومع تولي المهندس باسم بن يعقوب الحمر حقيبة وزارة الإسكان منذ العام الماضي 2011، بدأت سلسلة من الاجتماعات المكثفة داخل الوزارة وخارجها، مع الاستعانة بجهات الاختصاص لإعداد الدراسات اللازمة لتقييم الملف الإسكاني، ووضع اليد على الأسباب الرئيسة والواقعية ومكامن الخلل التي آلت إلى فقدان توازن الملف الإسكاني وبالتالي تراكم الطلبات، مستعيناً في ذلك بخبرات المسؤولين والمتخصصين بوزارة الإسكان، وبالتقارير التي تعود إلى عهد وزراء الإسكان السابقين، بغية وضع خطة إسكانية طموحة تمثل خارطة الطريق نحو إيجاد حلول جذرية للعقبات التي تواجه الملف الإسكاني، ليس فقط لتلبية الـ50 ألف طلب إسكاني، بل لضمان استدامة ملف الإسكان مستقبلاً، آخذين في الاعتبار التحديات الحالية والمستقبلية من النواحي كافة، وفقاً لأحدث الإحصائيات والدراسات، ومستخدمين أحدث الأساليب العلمية لوضع تلك الخطة الاستراتيجية.نتائج مرحلة التقييموأظهرت الدراسات والتقارير أن الزيادة المطردة في عدد الطلبات الإسكانية بدأت منذ العام 1999، وتصاعدت ليصل عدد الطلبات الإسكانية في العام 2007 إلى 36 ألف طلب إسكاني، ليستمر المنحنى في الصعود مرة أخرى ويصل مع نهاية العام 2011 إلى 51 ألف طلب إسكاني.كما أظهرت الدراسات والإحصائيات أن المحافظة الشمالية تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد طلبات المواطنين القاطنين بها، والمدرجين على قوائم الانتظار بنسبة 33% من إجمالي الطلبات، تليها المحافظة الوسطى بنسبة 29%، ثم محافظة المحرق بـ 17%، ثم العاصمة 13%، وأخيراً الجنوبية 7% من إجمالي الطلبات.كما خرجت مرحلة التقييم والدراسات بحصر شامل لحجم الأراضي المتاحة لدى الوزارة، والأراضي المتوفرة ولكن ليست متاحة، بالإضافة إلى بحث أسباب تعطل العمل في تنفيذ مشاريع مدن البحرين الجديدة التي تضم المدينة الشمالية وشرق الحد وشرق سترة، ومشاريع المجمعات السكنية العالقة لأسباب مختلفة، فضلاً عن تأخر تنفيذ برنامج الشراكة مع القطاع الخاص لبناء مشاريع السكن الاجتماعي، وهو أحد الحلول الاستراتيجية الذي بإمكانه الإسهام في مساعده القطاع الحكومي في إنجاز المشاريع الإسكانية.حلول عاجلة.. من خلال ما سبق من مشكلات وتأخيرات في نسب الإنجاز، وضعت الوزارة حزمة من الحلول العاجلة التي تكفل معالجة ما يواجه المشاريع القائمة من عقبات أو تأخيرات، فتم تكثيف الاجتماعات مع الجهات ذات العلاقة بالمشاريع الإسكانية خارج الوزارة لتحريك ركود بعض المشاريع، وتسريع وتيرة العمل في مشاريع أخرى، والتسريع في إنهاء إجراءات الاستملاكات والتخطيطات وغيرها، ونجحت الوزارة فعلياً في تحريك الكثير من المشاريع التي تم توزيعها بالفعل خلال شهر ديسمبر الماضي بعد مباشرة العمل بها، وحتى قبل أن يتم الانتهاء من إنجازها بنحو كامل، في خطوة كان هدفها الأبرز طمأنة المواطنين.وعقدت الوزارة اجتماعات عمل عدة مع المقاولين المعتمدين لديها للتعرف على أبرز العقبات التي تواجههم، والعمل على حلها، وتحفيزهم على ضرورة زيادة التعاون مع الوزارة في ظل إقبالها على إطلاق عدد ضخم من المشاريع الإسكانية وفق معايير ومواصفات مستحدثة سيتم ذكرها لاحقاً، وهو ما كان يتطلب ضرورة التواصل والتنسيق المستمرين لتجنب حدوث أي فجوات أو تأخيرات مستقبلية.وبالتوازي مع ذلك، وضعت وزارة الإسكان خطة استراتيجية خمسية تتضمن 5 محاور رئيسة رأت الوزارة أنها تمثل الحلول الواقعية لتلبية قوائم الانتظار خلال الأعوام الخمسة المقبلة، أولها تفعيل الشراكة مع القطاع الخاص، إذ سعت الوزارة إلى تفعيل دور القطاع الخاص في بناء وحدات السكن الاجتماعي والاقتصادي، عن طريق اتفاق شراكة يقضي ببناء المشاريع الإسكانية تحت مظلة المعايير الإسكانية التي تتبعها وزارة الإسكان، من حيث تصميم الوحدات، وثبات السعر لكي لا يتكبد المواطنون مبالغ إضافية، على أن تقدم الوزارة التسهيلات اللازمة لبناء تلك المشاريع، وتوفير الأراضي التي من المقرر بناء المشاريع الإسكانية عليها.أما المحور الثاني فكان يشير إلى إدخال مشاريع مدن البحرين الجديدة حيز التنفيذ والتي تشمل المدينة الشمالية، ومدينة شرق الحد، ومدينة شرق سترة، كأولوية كبيرة ضمن خطتها الإستراتيجية الخمسية، إذ تنظر الوزارة إلى تلك المشاريع على أنها أحد أكبر الحلول التي من شأنها أن تحلحل الطلبات الإسكانية بنحو كبير وأبرزها، فيما ارتكز المحور الثالث على تكثيف عدد مشاريع المجمعات السكنية التي تنفذها وزارة الإسكان في مختلف محافظات المملكة، والعمل على تسريع وتيرة عملها، وأعدت وزارة الإسكان خطة طموحة لبناء عدد كبير من المجمعات السكنية خلال العام الماضي، واستطاعت أن تدخلها إلى حيز التنفيذ، وتشمل مشاريع شمال شرق المحرق، وعراد، والدير وسماهيج، وغرب البسيتين، والبرهامة والقلعة، وجدحفص، والمالكية، والزلاق، والحنينية ومدينة حمد بالإضافة إلى عدد من المشاريع الأخرى.ويتطرق المحور الرابع بالخطة إلى برنامج المطورين العقاريين، وهوالبرنامج الذي ما إذا تم التوافق على صيغته النهائية واعتماده، سيتم من خلاله تحفيز المطورين العقاريين والمستثمرين على استخدام أراضيهم لبناء وحدات سكن اجتماعي، بناءً على المعايير الفنية لوزارة الإسكان، فيما يتضمن المحور الرئيس الخامس والأخير نظام الرهن العقاري، الذي يهدف إلى توفير نظام مستدام لتقديم الرهون العقارية للمستحقين من خلال التعاقد مع القطاع المصرفي الخاص وتأسيس عدد من المؤسسات التي من شأنها تيسير وتحفيز المؤسسات المالية في القطاع الخاص للدخول في مجال التمويل المالي ومن خلال توفير الضمانات والمنح المالية، وسيكون لذلك الأثر البالغ في تسهيل حصول المواطنين على قروض إسكانية طويلة الأمد وبأسعار فائدة أقل، كما سيسهم المشروع في توسيع نطاق الخدمات الإسكانية لتصل إلى شرائح جديدة من المجتمع مثل الأسر ذات الدخل المتوسط والذين لا تشملهم معايير الإسكان الحالية للاستفادة من الخدمات الإسكانية.وسنورد خلال حلقات النشر المقبلة الخطوات التي اتخذتها الوزارة من أجل رفع قدراتها، والإنجازات التي استطاعت الوزارة تحقيقها على مدار عامٍ كامل، فضلاً عن التحسينات وأعمال التطوير التي طالت إدارة الخدمات الإسكانية، والخط المستقبلية التي تنوي الوزارة تنفيذها على مدار الأعوام الخمسة المقبلة.